السبت، 9 يونيو 2018

نهاية عصر الإعلام مشاركة د. محمد الدعمي



لا بد للمرء أن يلاحظ بأن أقوى ضربة (شبه قاضية) تلقاها الإعلام قد جاءت من “رأس المال”، أي من الممولين الذين مكنتهم قدراتهم المالية من ابتياع كل ما من شأنه تقويه وشأفة وسائلهم الإعلامية على حساب الوسائل الإعلامية المعاكسة، لذا ظهرت حال “الاتجاه المعاكس”، بمعنى الإعلام المصلحي الذي يخدم جهة أو موقفا معينا على حساب موقف مغاير، وهكذا.

عندما اعتاد المرحومان والدي ووالدتي الالتصاق بالمذياع على “أخبار لندن” أو (الـــBBC، بالعربية) وكأنهما مثبتان على مذياعنا الصندوقي الكبير بمادة صمغية، كان الإعلام حقبة ذاك يشكل سلطة فاعلة حقة، بل وبمعنى الكلمة، إلا أن هذه الظاهرة سرعان ما راحت تتلاشى، فأخذ الإعلام يفقد “هيبته” وسطوته شيئا فشيئا خاصة عندما تورط إداريوه بالعمل المصلحي، درجة أنك لو حاولت ملاحظة أنماط متابعة الأنباء لدى الأفراد والجماعات، فلا بد أن تلاحظ هذا الضعف والهوان على الإعلام ووسائله الشتى، خاصة بعد انتشار “وسائل التواصل الاجتماعي”، إذ ما فتئ الكثيرون يفضلون أخبار هذه “الوسائل” على أقنية أنباء الإعلام التقليدية (المسموعة والمرئية، من بين سواها).
ولو شاء المرء “تورخة” من نوع ما لسطوة الإعلام، فإنه لا بد أن يؤرخ بدايات تدهور سطوته إلى محاولات الدولة فرض الهيمنة على الإعلام وقنواته، على تنوعها، خاصة عبر تواريخ الأنظمة الشمولية التي فطنت إلى أهمية “الإعلام الجماهيري” Mass Media، أداة للترويج لإراداتها على سبيل توجيه الجمهور، بل وحتى على سبيل تنويمه مغناطيسيا!
ويعد الرايخ الثالث هو أقوى وأهم محطة في “حكاية تدهور سلطة الإعلام” تاريخيا، نظرا لأن رايخ الحرب العالمية الثانية قد عد الإعلام سلاحا فتاكا في الحرب، سلاحا لا يقل فتكا وفاعلية عن المدفع والقوة الجوية، من بين سواها من الأسلحة. في هذه المرحلة التاريخية ظهرت أسطورة “الإعلام الموجه” أو “الإعلام المركزي”، بمعنى إعلام الدولة كما تريده هي.
وإذ تعاظمت أهمية وسطوة الإعلام على نحو سريع للغاية مذاك، راحت أجهزة الإعلام تدخل حروبا بينية، راح الإعلام يسفه، خاصة بين أشكال الإعلام الموجهة أعلاه وحسب الأنظمة السياسية ومصالحها. ولا بد للمرء أن يلاحظ بأن أقوى ضربة (شبه قاضية) تلقاها الإعلام قد جاءت من “رأس المال”، أي من الممولين الذين مكنتهم قدراتهم المالية من ابتياع كل ما من شأنه تقويه وشأفة وسائلهم الإعلامية على حساب الوسائل الإعلامية المعاكسة، لذا ظهرت حال “الاتجاه المعاكس”، بمعنى الإعلام المصلحي الذي يخدم جهة أو موقفا معينا على حساب موقف مغاير، وهكذا. أفسد المال رسالة الإعلام المحايدة، بكل تأكيد. وهذا هو ما دعا إلى ابتكار “وسائل إعلامية بديلة” تنافس، بل وتنابز الوسائل الإعلامية التقليدية. وقد جاءت ابتكارات العصر الرقمي الذي نحيا مرحلته الذهبية الآن بمثابة رجة وعي، لتقضي على أنفاس الإعلام التقليدي الرئيسة.
وقد اكتسب التغير أشكالا رمزية عبرت عن مراحله: فقد كانت الانتخابات الأميركية على عهد آيزنهاور تعتمد البث الصوتي (المذياع)، أما في مرحلة الرئيس كنيدي فقد اعتمدت، ولأول مرة سطوة التلفاز لنقل المناظرات بين المتنافسين، بديلا لسطوة المذياع والبث الإذاعي في المرحلة السابقة. أما في عصرنا هذا، فقد دشن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولأول مرة كذلك، اعتماد سطوة وسائل التواصل الاجتماعي: فبديلا عن الرسائل المتلفزة والمؤتمرات الصحفية العامة، اعتمد الرئيس ترامب، حتى قبل فوزه بالبيت الأبيض، “وسيلة التغريد” Twitter بديلا عن الوسائل الإعلامية المعتمدة والمعروفة، خاصة بعد أن كرر مرارا هجومه المعروف ضد “إعلام الأخبار المزيفة”، Fake News كما أطلق عليها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق