الاثنين، 4 يونيو 2018

رمضان ...الدكتور محمد عمر محمود حاج خليل والجد محمود والجدة حربية الزيتاوي .- بقلم الدكتور صلاح محاميد




اسعدني كرم هذا الشهر الفضيل بتخرج ابن اخي عمر الدكتور محمد في كلية الطب والحمد لله . وهو الحفيد فوق العشرين من خريجين وآكاديميين من ذرية والِديَ وقد حرصوا على التضحيات الجسيمة  وبالغالي لضمان الحياة الكريمة لذريتهم ولسكان البلد وتقديم التعاليم للبشر . هذا المساء المبارك أبعث الفصل الرابع من كتاب " إسلامي ، يوميات حربية لشاعر فلسطيمي يعيش في إيطاليا" المنشور في إيطاليا عام 2002 وبالعربية في البيضاء عام 2008 وفي الدمام ، المملكة العربية السعودية عام 2014، هدية للدكتور محمد ولأهله ولشعبة وتخليداً للوالدين حربية الزيتاوي ومحمود حاج خليل كساب . سأنزل الفصول الثلاثة السابقة في الملحق ويومياً سأنزل فصلاً من كتابي خلال هذا الشهر الفضيل.




4 .زيارة المجاهد الأسطوري خالد بن الوليد , رضي الله عنه
17 أكتوبر 2001

أصبحت مُطبقاً لتعاليم الإسلام, لحسن حظي, في النصف الأول من سنوات السبعين, قبل هبوب تلك الموجه الدينية التي جرفت الشرق ألأوسط في ذلك العقد إثر نجاح ثورة الخميني في إيران.
اتخذتُ قراري هذا بعد تمحيص وكان صعباً. كنت الوحيد من أبناء جيلي الذي يقيم الصلاة خمس مرات يومياً ويقوم بالصيام خلال شهر رمضان المبارك.
حرمتُ نفسي من مجاراة عادات أصدقائي وطقوس إخوتي. ولكن في المقابل, كنت أتمتع باحترام, بكل ما تحويه الكلمة من معانٍ, من قبل والدَي والكبار الذين راودوا المسجد.

اعتادت أمي تكراراً, انتقاد جمودي في تنفيذ الشرائع الدينية بحذافيرها, كذلك كان أبي يحاول إقناعي بشكل مستمر بعدم جدوى نهوضي فجراً لتأدية الصلاة, وأن الله سبحانه تعالى لا يوجب هذا على طفل مثلي.

رمضان هو الشهر الذي خلاله يتوجب على المسلم أن يصوم من الفجر حتى الغروب. بفضل تلك الفترة السنوية استطعت أن أطور صفاتي كشخص مُستقل وأن أتعرف على الكثير من أسرار الروح.
كنت أفرض على أمي إيقاظي ساعةً قبل الفجر لتناول السحور، وهذا وجبة دسمه تُستهلَك لمواجهة صعوبة الصيام: بيض مقلي, لبن, شاي, قمر الدين, لوز مُكسر مُحلى، وتُمر.
في تلك الساعة من ذيل الليل, كان يظهر على والدَيّ مشاعر المودة والتقارب, لحظات معدومة, أمام بقية أخوتي, خلال ساعات النهار. كان يبدو على أبي الهدوء, يتكلم بصوت خافت وعميق, بكلمات متقطعة ومُفصّلة. كان يساعد أمي في تحضير السحور وأمي كذلك بالمقابل تحافظ على صوت هادئ وعاطفي.
في تلك الساعة حيث الصمت سيد الموقف, كانت تصل ألسمع أنفاس أخوتي المُنتظَمة وصدى طبل الشيخ خليل, الذي أعتاد أن يدور في شوارع القرية، يهلل بأبيات دينية لإيقاظ المؤمنين ويقرع الطبلة للسُحور.

سكن الشيخ خليل في الطرف الآخر للبلدة حيث يقع منزلنا وتشرف والدي أن  يدعوه معظم المرات لتناول السحور. كنا نستمر بتناول الطعام حتى ينادي المؤذن لصلاة الفجر فنشرع الصيام, ومن ثم أقيم صلاة الفجر جماعةً مع أبي والذي كان يتوجه رأساً للعمل. أما أنا فقد كنت أرجع للنوم.

في الصباح كنت أفيق متأخراً حينما يتناول أخوتي طعام الفطور:شاي, زعتر, زيت وزيتون.
امتنعت أيام رمضان مشاركة أصدقائي في مباراة كرة القدم قبل ذهابي للمدرسة. كنت أتوجه, خلال فرصة الغداء, إلى المسجد لتلاوة القرآن الكريم ولأداء واجباتي الدراسية. بعد انتهاء المدرسة أتوجه مرةً أخرى للمسجد وقيام صلاة الظهر قبل رجوعي إلى البيت.

حرصت أمي كل يوم, الاطمئنان على استمراري في الصيام وكانت تنصحني بالاستراحة. بعد القيام بصلاة العصر كنت أتوجه إلى البساتين القريبة لقضاء الوقت برفقة كِتاب.
في تلك البساتين المُسماة عين خالد, تسميه تعود, يُقال, إلى المُجاهد الأسطوري خالد بن الوليد رضي الله عنه, جعلت هناك من مرتفع ترابي, يطل على الوادي الطويل الذي يتدفق ليلتقي بأقدام هضاب عين الزيتونة, مركزاً لي. كنت أقرأ الكتب ومن لحظةٍ لأخرى أراقب المناظر من حولي.
كنت أستلقي على ظهري مُفترشاً العشب, حينما قرصات الجوع تبدأ بوخز أمعائي.
تلك الساعات من أيام رمضان تتخذ الطبيعة خواص غير مألوفة. الروائح تصل الأنفاس شديدة. شذى الأزهار مُضاعفة. الأصوات: غناء العصافير, الحفيف, خرير الوادي كانت تُسمع بوضوح وانسجام. الألوان المحيطة للهضاب, السماء والغيوم تبدو ساطعة.

مستلقياً على العشب, كنت أثبت نظري في زرقة السماء حيث الغيوم البيضاء تبدو راقصه. تتقاطع, تُغير شكلها, تنتج ألسنة فيما بينها تلتقي. كان الريح يلامس السحابات لِيُحدث تجسيمات ُمتغيره. عندما كنت أثبت نظري في الغيوم, علماً بإدراكي أن ما يحدث هو لعبة بصر, تبتعد هذه  في مجال رؤيتي وفجأة يظهر أمامي خيوط ثعبانية مُجدَلة شفافةً حيناً, وأخرى فِضيّة. خيوط تتموج, تتحرك من الأعلى للأسفل بمسار قوسي. كنت أثبت نظري في القمر وهو أبيض اللون نهاراً: فجأةً كان يبدأ الوقوع ببطء حتى يختفي من مجالي البصري. لكن عند إغلاق جفوني كان يرجع إلى مكانه الأول ومن جديد يتحرك نحو الأسفل. مرةً لليمين وأخرى إلى اليسار.

كان القمر يرقص في مجال نظري خلال أيام رمضان.
في تلك اللحظات كنت أشاهد عالماً متحركاً مفقود في الأيام العادية. أقضي الساعات مُداعباً رؤايَ مُرافقا بكتب قيمة.
أعتدت التوجه للبيت قبل الغروب بقليل، لأجد والدي كان قد رجع من العمل, ويقوم بتحضير الفطور: وجبة غنية متعددة أنواع الطعام, وهو جالساً خلف الطبلية: طاولة ترتفع تقريباً ثلاثين سم عن الأرض كنا نستعملها فقط خلال رمضان.
عند وصولي للبيت, كان أبي بعد تأكده من استمراري بالصيام, يدعوني للجلوس بجانبه. ومن خلف الطبلية يبدأ بأوامره لإخوتي كالقائد: أنت سطّح البندوره وبعدها البصل. أنت حضِّر الطحينة وأخلطها جيداً مع الليمون. سخّن الخبز. ساعد أمك في تجهيز الدجاجة. أسكبْ العدس في الصحون. أنت اذهب لشراء الفلافل. هذه السلطة غير جيدة أضِف البقدونس. أجّل قلي الزنكل, يجب أن يكون ساخناً عند تناوله. كان صالون البيت خلال رمضان يتحول إلى ورشة عمليات ومطبخ. يستمر أبي بهيجانه, يأمر إخوتي بصوت صارم  وأنا جالس بجنبه بهدوء, حتى يجهز الفطور. أما أمي فكانت من الحين للآخر تتذمر وتنبر بسبب صرامة والدي. وكلما كانت تُشدد من نبرها كان أبي يكّثف أوامره ويزيد قسوةً. كنت أفهم أن ذاك نوع من اللعبة المُتفق عليها بينهم فأضحك بداخلي.
عند تجهيز الفطور يجلس كل أفراد العائلة بهدوء حول الطبلية والاستماع للقرآن من خلال المذياع, الانتظار بصمت حتى يبدأ الآذان مُعلناً الغروب ولحظة الفطور.
حينها أبي وأنا , بعد أن نتضرع لله قبول صيامنا ولفظ النِّية كنا ندعو أخوتي للبدء بتناول الطعام.
بعدها, كنا نقيم صلاة المغرب جمعاً في البيت, لتستمر السهرة, في الكثير من الأحيان باستضافة أصدقاء للعائلة.
كنت أُحدثُ الحاضرين حول أحاسيسي ورؤايَ في البساتين وكانوا يعزونها إلى كرم رمضان " رمضان كريم" . يكررون ويعتبرون أن في هذا الشهر المقدس تحتفل الطبيعة. "سبحان الله" و"الحمد لله". هكذا كانوا يعلقون على حديثي.
في الساعة التالية كنا نصلي العشاء ومن ثم بشكل طوعي, صلاة التراويح . وهذه الصلاة يمكن للمسلم أن يؤديها لوقت غير محدود، وفيها يُقال تظهر تجليات الروح. يُحدِث الكثيرون بأن إقامة تلك الصلاة توهب الجسم خفةً حتى عدم الشعور به وتكسب المرء نوماً عميقاً.
قبل توجهي للنوم كنت أوصي أمي بإيقاظي للسحور.
يكون الصيام في شهر رمضان حسب التوقيت القمري. آخر أيام رمضان تقوم بعض المذاهب بالتوحيش وهو ترتيل يعبر عن الشوق لأيام رمضان وتوديعه ويتم هذا بالاحتفال بالعيد الصغير.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق