الخميس، 18 يناير 2018

لننقذ حاضرة الثقافة العربية بقلم : أ.د. محمد الدعمي

”إن محاولة وصف وتعريف دور الثقافة والمثقفين عصرنا هذا عبر العالم العربي من خلال المقارنات والمقاربات مع تجارب الأمم الأخرى، توجب علينا الاعتراف بثمة “طلاق” لدينا بين نخبة الثقافة (وهم الأقلية) وعامة الجمهور (الأغلبية). لا يمكن، بطبيعة الحال، أن ننحي باللائمة على الحكومات والأنظمة التربوية فقط.”
لا مناص من أن يشعر المتابع بتضييق الكثبان الرملية المتحركة الخناق على حاضرة الثقافة العربية عبر عصرنا الجاري. إنها نقطة غاية في الخطورة عبر العالم العربي اليوم، ذلك أن الحديث عن الثقافة واستذكار العناوين والشواخص الثقافية أمام الفئات العمرية الشابة أصبح، لبالغ الأسف، مدعاة للاستغراب، وربما للتندر؛ على عكس ما كان يحدث في أواسط القرن العشرين، حيث كانت الشبيبة تتشبث بالقراءة وبمعرفة عناوين الكتب وأسماء المفكرين، ليس فقط من أجل الاستنارة لذاتها، بل كذلك لأجل التظاهر بالثقافة واستعراض المعارف (على أقل تقدير)، خاصة بين فئات الشبيبة الواعدة والواعية. أما الذي يتحدث في الثقافة اليوم، من بين هذه الفئات العمرية، فإنه لا بد أن يبدو إنسانا مغردا في كوكب آخر، أي “خارج العصر” كينونة مغتربة تائهة في عالم غدا ألعوبة لـــ”الفيديو كليب” ومنتديات الإنترنت التي، للأسف، لا تبث سوى ما يجافي الثقافة الحقة.
عندما أطلقت على هذه الظاهرة عنوان “التصحر البشري” عبر هذه الصحيفة الغراء، فإنه قد توجب التنويه إلى خطورة الفجوة المتسعة باطراد الآن بين المثقفين وبين الجمهور، خاصة وأن هذه المسافة إنما ستصيب الثقافة بشكل من الشلل واللاجدوى، والحال الأخيرة تؤول بها إلى اللافاعلية. والصحيح هو الحال المعاكسة، إذ إن تجارب الأمم المتحضرة اليوم تشير إلى أن المثقفين هم الذين اضطلعوا بالأدوار الأساس في تشكيل عصور التغير والتقدم، معرفين أدوارهم الاجتماعية والسياسية ومضطلعين بها من خلال الانغماس في حركة المجتمع في جهودهم الجادة لتوجيهه وتجهيزه بعلامات الدلالة، تجنبا للفوضى وللضياع وأحادية الجانب. لقد كان هذا، بكل دقة، ما حدث في عصر الثورة الفرنسية حيث كان الفلاسفة والإنسايكلوبيديون هم قدحة وقود التغير، والبناء فيما بعد. علما أن ما تحقق في عصر الثورة الصناعية اللاحق في بريطانيا، أعدّ كذلك للنخبة الثقافية الفذة آنذاك دورا اجتماعيا وسياسيا لا يمكن تجاهله في أية دراسة لتاريخ بريطانيا ذاك العصر. لهذا السبب نخص المفكرين “توماس كارلايل” و”ماثيو آرنولد” و”بنثام”، من بين آخرين، بالدراسة في أقسام الآداب والفلسفة، السياسة والاقتصاد، عندما نباشر هذا العصر المفصلي الحاسم في تاريخ العالم. إنه لمن الطريف أن نلاحظ أن “أرستقراطية الثقافة” في بريطانيا القرن التاسع عشر قد وصلت حد تعيين أشهر رئيس وزراء ربما في تاريخ بريطانيا الحديث، وهو من رجال الثقافة، إنه رجل دولة ورجل قلم: الروائي الفذ “بنجامين دزرائيلي”، صديق الملكة فكتوريا المقرب الذي عمد إلى شراء بريطانيا أسهم شركة قناة السويس حقبة ذاك.
إن محاولة وصف وتعريف دور الثقافة والمثقفين عصرنا هذا عبر العالم العربي من خلال المقارنات والمقاربات مع تجارب الأمم الأخرى، توجب علينا الاعتراف بثمة “طلاق” لدينا بين نخبة الثقافة (وهم الأقلية) وعامة الجمهور (الأغلبية). لا يمكن، بطبيعة الحال، أن ننحي باللائمة على الحكومات والأنظمة التربوية فقط، خاصة وأننا لا يمكن أن ننكر أن أغلب حكومات الدول العربية، الميسورة وغير الميسورة، لا تتأخر قط ولا تبخل بشيء في دعم كل ما من شأنه دعم وتقدم الثقافة. بيد أن الأزمة تتجلى على نحو مخيف بين “شيوع الثقافة” من ناحية، وتقهقرها لتكون مجرد هياكل صماء، من الناحية الثانية، هياكل تؤول إلى حبسها وعزلها وإجهاض دورها البناء. ربما يتمكن متابع نابه أن يضطلع بمهمة قياس الهوة بين الجمهور العربي وبين الثقافة النخبوية عبر “استبيان علمي” إحصائي يحتوي على أسئلة من نوع: “ما الذي تعنيه لك هذه الأسماء: إخوان الصفا، المتنبي، الجاحظ، المعتزلة، طه حسين…إلخ”، كي يوزع هذا الاستبيان بين المئات من الشبيبة والنشء في المدارس والجامعات العربية. وللمرء أن يتكهن في هذه الحال أن الذين سيجيبون على هذه الأسئلة بشكل صحيح لا يتجاوزون حفنة من الشباب من بين غالبية من أقرانهم.
اجتمعنا قبل أعوام مع وزير الثقافة في العراق، فوجدنا فيه طموحات كثيرة وأحلام كبيرة تعتمل على طريق بناء ودعم الثقافة. إلا أنه قد تمت ملاحظة الجفاء بين الجمهور والثقافة، باعتبارها طريقا ليست مدرة اقتصاديا، لا تساعد على الكسب المالي والسياسي. إن الملاحظة الأهم في هذا السياق هو أننا نبني هياكل ثقافية وصروح كبيرة دون أن نحسب كم هي أعداد الذين سيستفيدون منها حقا، وكم هو عدد هؤلاء الذين ستوحي هذه الهياكل لهم بالعمل في المجال الثقافي فتساعدهم على المثابرة للتشبث بالفكر الرفيع. إننا لا نبخل في تأسيس مجالس عليا للثقافة وهيئات استشارية ثقافية من أرفع الأسماء، كما أننا نبني مكتبات مهولة، ولكننا لا نعرف على نحو الدقة كم هو عدد الذين سيرتادونها والذين سيفيدون منها من غير “المحترفين”، بمعنى هؤلاء الذين يدرسون منابع الثقافة أو تفرعاتها؟ وقد كان هناك ثمة مقترح آخر لإنشاء حديقة أو “متنزه الخالدين”، وهو فضاء جميل تنتشر فيه تماثيل لأبرز سراة الثقافة الوطنية والقومية، مزودة بسيرهم ونتاجاتهم وأدوارهم الفكرية والاجتماعية؛ ولكن، مرة أخرى، هل ستكون مثل هذه “الحديقة” مأهولة؟
وثانية، أؤكد أن الحكومات العربية عامة لا تبخل في دعم مثل هذه المشاريع، اقتصاديا واعتباريا، إن لم يكن دعمها مدفوعا بحب شواخصها للثقافة لذاتها، فإنه يكون من أجل الظهور بهذا المظهر، ولكن متى كانت الثقافة العربية أكثر شيوعا: الآن أم في أواسط القرن الماضي؛ عندما لم تكن هناك مدن ثقافية ولا متنزهات خالدين ولا مكتبات عملاقة، أم الآن؟ إن البنى العمودية والهياكل الشكلية تتصاعد، ولكنها تتصدع في ذات الوقت، بسبب غمر كثبان التصحر الرملية “حاضرة الثقافة العربية”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق