أ.د. محمد الدعمي
” لست ابالغ إن لاحظت بأن مبادرة الشيخ محمد بن راشد هي من المبادرات الأولى من نوعها من بين مبادرات أخرى، ولا تسعفني الذاكرة في هذا المجال، بسوى قرار يستحق التقدير والاستذكار للحكومة العراقية بداية السبعينيات من القرن الماضي، التي أصدرت قانوناً كما أعتقد، لغرض مواز لهذه الجائزة.”
ـــــــــــــــــــــــــ
لايملك المرء إلا أن يشعر بالامتنان والعرفان لمبادرة الشيخ محمد بن راشد المكتوم نائب رئيس دولة الامارات العربية المتحدة ـ رئيس مجلس الوزراء ، حاكم دبي بتخصيص جوائز نقدية واعتبارية مجزية لكل من يفوز، بمبادرة أو نشاط استثنائي في خدمة اللغة العربية، بالجائزة التي خصصها للغة العربية. وهي اللغة التي تميز وترمز للشخصية العربية ولعبقرية تاريخها عبر العصور والحقب، ناهيك عن دورها الأساس اناءً لأهم ما كتبه وتفوه به العرب منذ أقدم العصور: ناهيك عن أهميتها الروحية، بوصفها لغة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ولغة القرآن الكريم، ولغة أهل الجنة.
وتأسيساً على اعتبار مجموع هذه الاعتبارات، تتبلور اهمية الجائزة، كمبادرة استثنائية، ليس لـ”إسعاف” اللغة العربية التي يحفظها القرآن الكريم لنا: “إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون”، وإنما للحفاظ على دورها في حياة الأمة وتكريسه، كي تؤدي المنوط بها من أغراض قومية وروحية، ثقافية وحضارية.
لست أبالغ إن لاحظت بأن مبادرة الشيخ محمد بن راشد هي من المبادرات الأولى من نوعها من بين مبادرات أخرى، ولا تسعفني الذاكرة في هذا المجال، بسوى قرار يستحق التقدير والاستذكار للحكومة العراقية بداية السبعينيات من القرن الماضي، التي أصدرت قانوناً كما أعتقد، لغرض مواز لهذه الجائزة. فرضت الحكومة العراقية بموجبه استخدام اللغة العربية الفصحى في كل مجال يميل المستخدِم (بكسر الدال) فيه الى استخدام العامية أو الدارجة. وكانت نتائج هذا القانون مدهشة وواعدة آنذاك في العراق على اقل تقدير، حيث تمت تنقية وسائل الإعلام الشائعة من العاميات والدارجات على تنوعاتها، بينما اضمحلت المجلات الترويحية الساخرة، المعتمدة على العامية لنقل الطرائف والنكات، حتى اختفت مجلات مثل (المتفرج) من حوانيت الصحف في بغداد وسواها من المدن. لقد كان ذلك قراراً مهماً، ما لبث أن تلي بقرار آخر بمنع بث الأغاني المفرطة باستخدام العامية، درجة الإسفاف. زد على ذلك كله جاء البرنامج الممنهج لمحو الأمية ولمنع تشجيع وانتشار “الحسكة”، اي اللهجة الشائعة جنوب العراق. وهكذا راحت الفصحى ترتقي محلها الطبيعي وسيلة اتصال رسمية، ثم شائعة، مصحوبة بعناية خاصة من الدوائر المعنية بالتربية والتعليم وتطوير المناهج والكوادر.
بيد أن للمرء أن يلاحظ في سياق كهذا بأن “قسرية” فرض الفصحى إن صح هذا اللفظ في سياق كهذا، بقانون وبتعليمات حكومية، لابد أن تستجيب لعوامل التعرية مع الزمن بسبب ميل العامة للعامية وبسبب اعتبار الفصحى لغة “المتمنطقين” أو أدعياء الثقافة فقط، للأسف.
وإذا ما كانت القرارات أعلاه فاعلة في العراق لعدة أعوام، فانها سرعان ماراحت تستجيب للميل “الدوني” للهجة العامية، خاصة بعد أن وظفت ذات الحكومة في العراق “الشعر الشعبي” أداةً تحريضية وتعبوية مع بداية الحرب العراقية الإيرانية. وكانت النتيجة المحققة هي أن تراجع توظيف الفصحى بسرعة مذهلة، فاتحاً الأبواب لغزو “عاميات” على حساب الفصحى، للأسف.
أما موضوع المبادرة البنّاءة أعلاه، فلابد أن تباشر إزاء خلفية مرعبة من ظاهرة التخلي عن اللغة العربية الأصل (الفصحى)، بتشجيع قصير النظر من الآنية الإعلامية، وبعضها رسمي للأسف، ناهيك عن طرد الفصحى على نحو شبه تام من وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، درجة أن من يستخدم الفصحى يمكن أن يتعرض للاستهزاء وللتندر حتى إشعاره بالتحرج والخجل، وكأن لغة العرب الأصل غدت مثلبة أو نقيصة، ولك الله يا لغة قريش!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق