أ.د. محمد الدعمي
” .. الآن، وبعد أن حملته السنوات والتجارب أعباء الخبرة وبعد النظر، أخذ صاحبنا يتندر بسلوكه المتمرد عندما كان شاباً مراهقاً نارياً مضاداً لكل ما كان كبار السن يمثلونه أو يرمزون اليه آنذاك. فعل “الإستبدال الجيلي” فعله وتركت الخبرات والتجارب المتراكمة آثارها على ذهنيته ونظرته للحياة، الأمر الذي جعله يتمنى أن تعود عجلة الزمن الى وراء ليقبّل أيدي الكبار الذين كانوا يتندرون بأفكاره “الثورية””
ــــــــــــــــــــــــــــ
يضحك في دخيلته كلما استذكر مواقف عاند فيها المرحوم والده، بوصفه شابا تقدميا في مواجهة والده كرجل رجوعي، ولكن بعد مرور الأعوام وتقادم العمر، انقلبت المنظورات والقيم عبر ما يمكن أن أطلق عليه تعبير “الإستبدال الجيلي”، إذ راح يشعر صاحبنا يوماً بعد آخر، بأنه إنما يتقمص شخصية والده، خاصة عندما يتعامل مع أولاده الشبان المتطلعين الى المستقبل والمتوثبين الى حياة أفضل من تلك التي عاشها والدهم. وهكذا تنقلب تتابع معادلة الأجيال، فعندما كان والده ينزعج من أصوات أو “ضوضاء” الموسيقى الغربية وأغانيها الشائعة آنذاك، كان صاحبنا يتحامل عاطفياً على ذائقة والده “المتخلفة” التي بقيت تتشبث بأغانِ لداخل حسن ولحضيري أبي عزيز حتى آخر ايام حياته رحمة الله عليه.
والآن، وبعد أن حملته السنوات والتجارب أعباء الخبرة وبعد النظر، أخذ صاحبنا يتندر بسلوكه المتمرد عندما كان شاباً مراهقاً نارياً مضاداً لكل ما كان كبار السن يمثلونه أو يرمزون اليه آنذاك. فعل “الإستبدال الجيلي” فعله وتركت الخبرات والتجارب المتراكمة آثارها على ذهنيته ونظرته للحياة، الأمر الذي جعله يتمنى أن تعود عجلة الزمن الى وراء ليقبّل أيدي الكبار الذين كانوا يتندرون بأفكاره “الثورية” وتطلعاته وذائقته آنذاك، بالقول: “أهكذا علمتكم المدارس؟” بما ينطوي عليه هذا الإستفسار البلاغي من نظرة دونية للثقافة المدرسية التي لم يحضر الجيل السابق صفوفها، معتمداً مناهل ثقافية لا مدرسية، منها المجالس الإجتماعية والمحافل الثقافية ومواعظ الجوامع وحكايات الدواوين (الديوانيات العشائرية).
أما هو، فيمثل آنذاك جيل المدارس التي شكلت وأنتجت نمطاً جديداً من الثقافة، نمطاً لا يابه بالحكاية ولا بالحكمة المستخلصة منها: هو نمط ثقافة مدرسية حاولت أن تغطي جميع ما تحتاجه أجيال تلك المرحلة، في جهد للموازنة بين الثقافة الدينية والثقافة الإجتماعية والوطنية، دون تجاوز معارف العلوم التطبيقية، من الفيزياء والكيمياء، الى الجبر والهندسة. وإذا كان ختيارية اليوم يمثلون غزواً ثقافياً من نمط شجاع وجديد سابقاً، فانهم يمثلون اليوم، مع ظهور أنساق وآنية ثقافية وتربوية جديدة معهودة قبلئذ، يمثلون قوة رجوعية في أعين الأجيال الصاعدة التي تقضي الساعات الطوال، ليس على حلقات الفقه والتمنطق وأخبار القدماء، ولكن على شاشات الكومبيوتر وعبر شبكات المعلومات الدولية والتواصل الإجتماعي التي تتيح كل شيء على نحو حرفي، سلباً وإيجاباً.
إذاً هي نوعية الثقافة وآنيتها وقنوات إيصالها التي ينبغي أن تتحمل مسؤولية عدم إتساق أفكارنا وطرائقها مع طرائق وأفكار الأجيال السابقة والأجيال الجديدة التي ما فتئت تنشأ من ثقافة مختلفة وتتشرب بمعايير وقيم سوى معاييرنا وقيمنا، بطبيعة الحال. ومعنى ذلك كله هو ظهور فجوات ثقافية بين الجيل والجيل الذي يليه، بغض النظر عما يحدث من تواصل وراثي عبر التركات الثقافية والتربوية التي استلمناها وسنحيلها لأبنائنا، وهم بدورهم سيوصلونها لأبنائهم، وهكذا دواليك.
لهذه الأسباب، يجد المرء صعوبة بالغة عندما يتحدث عن الفجوات بين جيل وآخر بوصفها صدامات أو ارتطامات جيلية. في زمننا، لقننا مفكرو العالم الغربي بأن التمرد على الجيل السابق مفيد لأنه يكرس وجود الشاب وينحت شخصيته ويضعه على مشارف عصر جديد. لذا كنا نتمرد من أجل التمرد لذاته. وقد كنا على خطأ بالتأكيد، فلا يوجد صدام بين جيل وآخر، وإنما يوجد تباين بين مهاد جيل ومهاد الجيل الذي يليه. فلماذا الصدام والارتطام تهيئة للصراع، بديلاً عن التفاعل والتلاقح البنّاء على طريق الإتساق والتطور التدريجي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق