أ.د. محمد الدعمي
لم أجد نصًّا أكثر تسفيهًا للعقل الغربي بقدر تعلق الأمر بنظرته للرسول الكريم، محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم)، مما كتبه الفيلسوف الأسكتلندي توماس كارلايل Carlyle، فصلًا ثانيًا من كتابه الفذ الموسوم (في الأبطال وعبادة الأبطال والبطولي في التاريخ). وللتاريخ أقول، على المرء أن يعلن أن هذا العقل الذكي (كارلايل) هو من وضع حدًّا للسفاهات والترهات التي كان يشيعها بعض رجال الكنيسة والدولة عبر أوروبا لتشويه صورة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) منذ العصر الوسيط، حد توظيفها شبحًا للتخويف، لشديد الأسف.
للمرء الاعتراف بجميل مفكرين مثل كارلايل وواشنطن إرفنج Irving في وقوفهما طودين شامخين أمام الاستغراق بالتشويه المتعمد لصورة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) الذي تواصل حتى “عصر الماكينة” (القرن التاسع عشر).
لقد كمن الخوف الهاجسي من انتشار الإسلام في أوروبا (كما لاحظت في مقالتي السابقة للوطن، بعنوان قصة عالمين) وراء حملات التشويه واللَّي التي اعتمدها رجال الكنيسة الوسيطة، كإجراء مقاومة، لوضع حد لتقدم الإسلام نحو قلب أوروبا، خاصة بعد صعود نجم العثمانيين الذين وصلوا حدود فيينا حيث لم تزل آثارهم شاخصة للعيان في مدن مثل بودابست (هنغاريا) وتسالونيك (اليونان).
كانت فكرة هؤلاء الأساس تكمن على هدف وحيد الجانب هو تشويه شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) في سبيل تشويه دينه، نابذين عنوان “الإسلام” ليستبدلوه بـ”المحمدية” اسمًا للدين، وكأن هذا الدين الحنيف كان من صنع (محمد) فقط، وليس تنزيلًا موحى به.
وإذا كان من الضرورة بمكان في سياق كهذا أن ينوه كاتب هذه السطور إلى أن “ناقل الكفر ليس بكافر”، فإن علينا مواجهة حقائق محبطة بقدر تعلق الأمر بتطور صورة شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في الثقافة الغربية، الأوروبية خاصة وأنها تعرضت لأنواع التشويه والحرف المتعمدين لصد تقدم المسلمين نحو بيزنطة شرقًا وباريس، غربًا.
واحدة من أهم وأخطر طرائق التشويه التي أفردت لها فصلًا من كتابي Arabian Mirrors and Western Soothsayers, NY: Lang, 2002 اعتمدت تسويق فكرة خاطئة مفادها أن محمدا (صلى الله عليه وسلم) اصطنع دينه (والعياذ بالله) من اليهودية والمسيحية، ليقدم نظامًا روحيًّا يوائم بيئة العرب الصحراوية الساخنة.
وعلى سبيل الإيغال في تشويه شخصيته العظيمة راح هؤلاء الغربيون يركزون على تعدد زوجاته وعلى سماحه بتعدد الزوجات “لأتباعه” وكأنما هو زعيم جماعة وليس نبيًّا موحى له. وإذا كانت هذه من محطات التشويه التي لم تزل قائمة حتى اليوم، فإن تحريم الخمر والميسر في الإسلام كان من هذه المحطات التافهة نظرًا لأن هذه الممارسات، حسب منظورهم لا تتواءم وبيئة العرب الصحراوية الجافة! لقد جسد المدعو “همفري بريدو” Prideaux كامل التراث التشويهي المشحون بالضغائن ضد الإسلام والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في كتابه الذي يبلور عنوانه كراهيته لهذه الشخصية العظيمة، وهو (الطبيعة الحقيقية للدجل). بيد أن علينا أن نلاحظ بأن ظهور الكنيسة البروتستانتية منشطرة عن الكنيسة الكاثوليكية، قد أجج التشويه المتعامي نظرًا لتوظيف رجال الكنيستين المتنافرين الإسلام وشخصية الرسول أدوات للنقد والقذف ضد بعضهما، كل حسب أهوائه. وبهذا كمن الصراع الطائفي الداخلي في أوروبا وراء المزيد من التشويه قصير النظر، للأسف.
إن للمرء أن يرتجع لهذا التراث الثقافي الأوروبي المختل، بقدر تعلق الأمر بما طوره من مفاهيم خاطئة ضد الإسلام ورسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) على سبيل استكمال صورة عدائية أوروبا لهذا الدين. إن ما جرى ويجري من أفعال مشينة لا تدين إلا نفسها وأصحابها، خاصة وأنها لا تشكل سوى حلقة إضافية ضمن سلسلة تاريخية غير منقطعة من حملات الكراهية والتخريب المتعمد التي تقصد النيل من شخص الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ومن دينه الحنيف: فلا غرابة في أن تخرج صحيفة فرنسية تافهة، متخصصة باستدرار الضحك، بغلاف يحاول الاستهانة بمن لا يرقى بشر إلى عبقريته ومرتبته عند الخالق عز وجل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق