الأربعاء، 28 يناير 2015

هل تغمر رمال الصحارى المدينة العربي بقلم البروفيسور محمد الدعمي


أ.د. محمد الدعمي
”.. عندما يذهب البغدادي الى أعمامه في الريف أو بعيداً على أطراف الصحارى، فإنه يتفاجأ بالذبائح والطبخ والنفخ الذي يجري حال نزوله الخيمة البدوية لأحد أفراد عشيرته. أما إذا ما حدث العكس، أي عندما يزوره ابن عمه في بغداد أو دمشق أو غيرها من الحواظر العربية فانه لن ينحر الذبائح، لأنه اقتصادياً وعملياً، غير قادر على ذلك.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
درج الاجتماعيون في العالم العربي على تقسيم حاد لسكان مجتمعاتنا الى نصفين رئيسيين، هما: الحضر والبدو. ثم ما لبثوا أن أضافوا سكان الأرياف، فئة ثالثة، رمادية اللون، باعتبار تأرجحها بين قيم المدينة وقيم البداوة. وهذا تقسيم منطقي مقبول نسبياً، بقدر تعلق الأمر بمجتمعات في مرحلة من الحركية والاستحالة والسيولة، كما هو حال مجتمعاتنا في المشرق العربي خاصة.
إن ما أحاول أن ألاحظه في هذا السياق هو أن ميزة “المدينية” هي ليست حالة عينية منظورة يمكن أن تتحقق فقط باستيراد أعلى ناطحات السحاب إلى الصحارى العربية. وهذا هو جانب مهم من قصة “صراع المد والجزر” بين البداوة والمدنية الذي تتمحور حوله مجتمعاتنا الحائرة في اختيار أحد الطريقين: المدنية أم البداوة. هو خيار صعب بحق. لذا تجد الإنسان العربي عندما “يصعد” طائرة متوجهاً إلى أوروبا، يشعر وكأنه يمتطي جملاً: فهناك، أي في الحواضر الأوروبية العامرة، يميل هذا الإنسان إلى استحضار حال الطوفان اللازمني عبر إحياء قيم البداوة على نحو صارخ يشكل تناقضاً قوياً مع قيم الحضارة والحواضر. لذا فانه يشعر بشيء من اللذة عندما يقيم مأدبة فاخرة، بكل ما تشتهي الأنفس من الذبائح والطبيخ، في سبيل تقديم “مفاجأة” صادمة، غير متوقعة لضيوفه الأوروبيين أو الأميركيين. لاريب بأن هؤلاء “الشقر الطوال” لن يخذلوا صاحبنا من هذه الناحية النفسية وعبر الخدمات اللفظية، إذ أنهم لن يتأخروا في التعبير عن الدهشة وعن الإعجاب بالضيافة العربية والكرم الحاتمي الذي يمتاز به المضّيف، ومرد ذلك هو عدم اعتيادهم على هذا النوع من الولائم لتكريم الضيوف والاحتفاء بهم: فالانسان الغربي يمكن أن “يدعوك” على “عشاء”، فتذهب بالتوقيت الصحيح لتكتشف بأنه يقدم لك “وجبة سفري”، أي “وجبة سريعة” كان قد ابتاعها من سلسلة مطاعم “ماكدونالد” أو دجاج كنتاكي”! فلا “مناسف” ولا “قوازي” ولا “دليميات”. فقط وجبات “مسلفنة”.
لذا، لابد أن يشعر العربي بالخذلان إزاء التناقض الصارخ والمقارنة الجادة بين وليمته و”عزيمة” صديقه الغربي. هنا تجد الذبائح وأنواع اللحوم من الضأن الى الأسماك والدجاج؛ وهناك قد لا تجد سوى “السلطات” ولحم الدجاج البارد. هذا ما يجعلنا نخرج بانطباع الضيف المنزعج، فنقول في دخيلتنا: “ما الذي دهى هؤلاء؟ لا احترام ولا تقدير للضيف لديهم؟” يا لبؤسهم!
والحق، فان هذه المفارقات تحدث في مجتمعاتنا في المشرق العربي على نحو ملحوظ: فعندما يذهب البغدادي الى أعمامه في الريف أو بعيداً على أطراف الصحارى، فانه يتفاجأ بالذبائح والطبخ والنفخ الذي يجري حال نزوله الخيمة البدوية لأحد أفراد عشيرته. أما إذا ما حدث العكس، أي عندما يزوره ابن عمه في بغداد أو دمشق أو غيرها من الحواظر العربية فانه لن ينحر الذبائح، لأنه اقتصادياً وعملياً، غير قادر على ذلك. كما انه لن يتمكن من أن يبالغ في فرش “السفرة” الكبيرة لأن امرأته، الموظفة، لم تعهد الطبخ والطبيخ لأكثر من بضعة أفراد، سوى زوجها وأطفالها.
وهكذا يخرج “البدوي” أو “ابن الريف” من منزل مضيفه “الحضري” بشيء من الامتعاض و”الأرق الحضاري” لأنه لم يلق ما يستحق من الإحترام والتقدير، على عكس ما فعل هو عندما استقبل ابن عمه القادم من المدينة الكبيرة. وكأن الاحترام والتقدير يقاسان بكمية الدسم التي تستحيل كوليسترولاً في أجسامنا.
وإذا كانت هذه التجربة تجسد اختلاف وتباين قيم البدو مقارنة بقيم الحضر، فانها تتحول الى “شرخ نفسي” مؤلم عندما تحاول البداوة ابتلاع المدنية وفرض قيمها على الحضر، كما حدث مرات عديدة في العراق وفي سواه من مجتمعاتنا التي تعاني من هذا الصراع: فعندما يسيطر ذوو الأصول والتنشئة البدوية على السلطة، فانهم غالباً ما يعمدون الى فرض قيم البداوة ومعايير الصحراء على الحضر من سكان المدن العريقين في مدنيتهم، الأمر الذي يخلق الكثير من التنافر والتنائي اللذين يمكن أن يستحيلا صراعاً في أوقات معينة، خاصة عندما يشعر البعض من الحضر بان المدينة تغرق بكثبان الرمال المتحركة على نحو سريع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق