منحت الطبيعة دول الشرق الأوسط مزايا جغرافية متنوعة طبيعيا ومناخيا، فكانت هي مزايا من النوع الغزير والموافق لوجود الإنسان وسواه من المخلوقات الأخرى، الأمر الذي يفسر ضعف القلق، وربما تراجع الوعي بأهمية البيئة وضرورات الحفاظ عليها. بالنسبة للخليج العربي، على سبيل المثال، يمتد الشريط الطولي الذي تتموضع عليه حواضر الإقليم الكبيرة (من البصرة حتى مسقط) على محيط جغرافي قادر على امتصاص التلوث بأشكاله لتخليصها من التلوث بالدخان والأبخرة السامة، أي من ذلك النوع الذي يقفل على المدن المحاصرة بالجبال وبأعمدة المداخن الصناعية، كما يحصل اليوم في مدن صناعية كبرى مثل بكين أو دلهي، بل وسواها من مدن الهند. الحواضر العربية عامة تحيطها مسطحات مائية بحرية واسعة يمكن لها بنسمة هواء بسيطة أن تطرد الهواء الملوث عنها إلى فضاءات شاسعة؛ أما من النواحي الأخرى، فإن الإناء الصحراوي العملاق لجزيرة العرب يضطلع كذلك باستيعاب كتل الغبار والدخان، نافثا هواء البوادي النقي نحو المدن كي “يغسلها”، فيعمدها بهبات الصحراء النقية التي طالما أحبها العرب، مفضلين إياها على أجواء الحواضر، فاعتادوا ابتعاث أبنائهم إلى البوادي من أجل النمو الصحيح في فضائها الصحي الذي يقوّي عودهم.
لقد كان غزو الكونكريت لحواضرنا مهولا؛ ومع الكونكريت جاءت السيارات والمكائن الجبارة التي تستهلك الكثير من الوقود وتنفث أضعافه من الغازات السامة، درجة أن قضية الحفاظ على البيئة الخضراء واليخضور (إشتق هذا اللفظ من “يخضور” بمعنى المادة الخضراء في النباتات) غدت اليوم من القضايا التي تستحق الرصد والتصرف السريع، وهذا ما سيجعلنا نراجع بأسرع وقت مجموع الأبنية غير الصديقة للطبيعة التي تبث الكثير من الفضلات وتدفن مساحات هائلة من التربة التي يمكن أن تحال مروجا خضراء. وإذا لم يستشعر المرء خطرا اليوم، فإنه لا بد أن يحس به في وقت ما لا محال، أي عندما تختفي البنايات أمام الناظر بسبب الأدخنة وما تبعثه المكائن الصماء.
تعد “اليخضرة” الآن من أكثر أنواع التكنولوجيا تقدما وتعقيدا وأهمية، ليس بسبب أسعار النفط والوقود الذي يتطلب ابتكار المكائن الأدنى إساءة للطبيعة والأقل استهلاكا للثروات الطبيعية، ولكن كذلك بسبب تواشج التكنولوجيا الجديدة بموضوع نوعية الحياة وبدافعية القدرة على العمل ثم الإبداع. للمرء أن يقول إن الدول المتقدمة تعمل الآن بكل طاقاتها العلمية والصناعية على إنتاج السيارات والقطارات والمكائن الأقل استهلاكا للوقود والأكثر حفاظا على الطبيعة من التلوث، ولكننا هنا نطلب السيارات ذات إسطوانات الاحتراق الداخلي الواسعة والمتعددة فحسب، لأنها سيارات فارهة ولأننا قادرون على ابتياع الوقود الرخيص، غير آبهين بموجة التكيف مع التقنيات الخضراء العالمية. لن تدوم هذه الحال طويلا، لأن إنساننا سيلاحظ في وقت قريب أن “المدنية” لا علاقة لها بكتل الكونكريت وبالسيارات الملونة الكبيرة، وإنما هي تتواشج بنوعية الحياة الحضارية والثقافية في الحاضرة وبأنماط العلاقات الاجتماعية الحديثة فيها، حيث تسود ثقافة المدينة على ثقافة البداوة أو الريف. وهذا يتطلب بيئة مناسبة وصحية تسمح بشيوع هذا النمط من الأخلاقيات الداعمة للعلاقات الاجتماعية الحضرية. بل إن هذا ما لا يمكن أن يتم دون بناء مدن يحترم سكانها اللون الأخضر الذي لا تخنقه ألواح الحديد وألواح الزجاج والألمنيوم.
قد يتبلور الوعي بضرورة الأنتباه إلى هذا الموضوع متأخرا، بمعنى بعد بناء المئات أو الآلاف من الأبنية الأنيقة التي نستلم مفاتيحها جاهزة من شركات البناء الأجنبية، ولكن هذا ما لا بد أن يضع الحكومات والمجتمعات هنا في حال لا يحسد عليها، خصوصا عندما تبرز الحاجة إلى هدم الأبنية المسيئة للطبيعة لاستبدالها بمبانٍ توافق مزاياها المواصفات الصديقة للبيئة. لذا ستضطر المجالس البلدية ووزارات الإعمار إلى “حرق” براميل النفط التي حرقناها لنستورد بها ناطحات السحاب المسلفنة، ثم لنزرعها في البوادي، بهدف استبدالها بمبانٍ وعمارات من نوع آخر وجديد، أي نوع صديق صدوق للطبيعة. إن الولع المحلي بالسيارات الكبيرة التي تستهلك الغزير من الوقود سوف يتلاشى، نظرا لأننا لسنا دائما بحاجة إليها، بل إننا نستعملها ونحرق معها الكثير من ثرواتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق