لا يراودني الشك قط (بعد أكثر من ربع قرن من العمل تدريسيا وقياديا جامعيا في جامعات عربية) بأن “التسييس” هو واحد من أهم المخاطر والمعضلات التي تواجه القيادات الجامعية العربية، ومرد ذلك هو الطبيعة الشبابية الأساس لشريحة الطلبة الجامعيين، حيث تكون بيئتهم (بفضل فئاتهم العمرية الشابة) حسنة الاستقبال للأفكار وللنظريات السياسية على تنوع أصولها ومشاربها وأغراضها.
بيد أن هذه المعضلة تبدو أدنى تهديدا، ولكن أكبر خطورة في حالات الدول ذات الحكومات الشمولية (بمعنى دول الحزب الواحد، أو الحزب القائد)، ذلك أن الحزب أو الجماعة المعتمدة من قبل الدولة هي فقط التي يتم إطلاق أيديها للتحرك العلني بين صفوف الطلاب دون وجل ولا خوف من رقيب أو من جاسوس مدسوس بين الطلبة.
أما الخطورة في هذه الحال فتبقى ملازمةً للجماعات أو الأحزاب التي ترنو لمنافسة “الحزب الواحد” في ميادين الدعاية السياسية والكسب الحزبي: فإذا ما اكتشفت السلطات أمر الجماعة المنافسة، فإنها لا تبخل على هذه الجماعة باصطناع شتى التهم الكافية للإهانات والعنف الفردي والاستدعاء والتخويف والترهيب، من بين سواها من أدوات الكبح واللجم، بل وحتى البتر!
أما في الدول الأدنى شمولية والأكثر تسامحا بالحريات الجامعية والسياسية (مقارنة بدول الحزب الواحد)، فإنها تحافظ على نظرة حيادية للأجواء الجامعية وتقلل من شأن أساليب وأدوات العبث الأيديولوجي أو السياسي مع الشباب الجامعيين والتلاعب بشؤونهم التي قد تعصى على فهم وإدراك حتى القيادات الجامعية. وفي هذه الحال، يجد الطلاب، سوية مع أساتذتهم، هامشا أوسع لأنشطة إبداء الرأي وتبادل الأفكار والتفاعل الفكري. لذا، لا تجد أستاذا يغيّب على حين غرّة بين ليلة وضحاها، كما لا يجد المرء سراديب وغرفا سرية لاستدعاء من يشك في ولائهم للسلطة المركزية. ومع ذلك كله، تبقى البيئة الطلابية الجامعية قوية الامتصاص للحركات السياسية وللأفكار الجديدة على مختلف مشاربها، درجة تحول ميدان الحياة الجامعية الى ميدان للمنافسات الحزبية والفكرية، بدلا من أن يكون ميدانا لكسب المعارف وتبادل الأفكار وللتدريب الأكاديمي الرفيع، خصوصا في مجالات آليات التفكير من التحليل إلى الاستبطان والاستنتاج. لذا، يكون خريج الدراسات الجامعية الأولية على مستوى رفيع من الثقافة بطرائق تفكيره العلمية، وبأساليب تعامله المتحضر مع المشاكل الحياتية والوظيفية في المستقبل. وهذا بكل دقة، ما يقودنا إلى الاستفهام الأهم، وهو: هل وظيفة الجامعة هي خلق الــ”الجنتلمان”، الرجل المحترم والإنسانة المحترمة فقط، أم أن هناك أهدافا أخرى تستحق أن توضع في حساب القيادات التربوية الجامعية، أهدافا أكثر فاعلية وخدمة للمجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق