الأحد، 23 يونيو 2019

المزاج العربي: من الحكاية إلى التاريخ ، لفلم أ.د. محمد الدعمي




إذا كنت قد تابعت افتتان العقل العربي بالماضي (في مراحله المبكرة) إلى ميله إلى للتسلية عبر استرجاع “حكايات” القدماء التي ثابر “الإخباريون”، ثم “الحكاياتيون” على الحفاظ عليها، والمثابرة على بقائها، فإنه يكون من الضروري رصد النقطة التاريخية التي شهدت “تحول” هذا الميل للتسلية إلى دراسة “التاريخ”، أي باعتماد الشكل العلمي لأخبار القدماء.
في هذه النقطة المفصلية تمكن العقل العربي من تحرير التاريخ من الحكاية على سبيل منحه سجية علمية تسمو به من وسيلة تسلية إلى نظام علمي تراكمي يضاف إلى مصاف الأنظمة العلمية التي لا يمكن متابعتها والإفادة منها بلا مناهج علمية دقيقة وأدوات تحقق وتيقن على سبيل الانتقال من الافتراضات الفضفاضة إلى مراحل التأصيل والتوثيق العلمي، إذ كان هذا المفصل المهم من تاريخ التأريخ العربي الإسلامي قد برز بقوة بعد ظهور الإسلام، بسبب الصراعات والجدالات السياسية والفقهية المتأخرة بعد الابتعاد أطوالا زمنية كبيرة عن لحظة ظهور الإسلام وعمّن شهد أوائل أحداثه الجسام.
وإذا كانت هذه النقطة المهمة قد أذنت بولادة الشيوخ من أمثال الطبري والمسعودي وابن مخنف واليعقوبي، من بين آخرين، فإن تعقّد الحياة الإسلامية بعد مرحلة الأمويين ومجيء العباسيين قد قاد إلى ما هو أعقد وأكثر تخصصا في تواريخ التاريخ عبر العالم أجمعين، دلائل إضافية على الافتتان العربي بالماضي، حتى تحويله إلى زنزانة فيما بعد من الحقب، قد يمتد مكوثه بداخلها حتى اللحظة.
وأهم أدلة تعقد التاريخ وتحوله إلى نظام علمي رصين، بدلا من كونه مجرد أداة “تسلية” وقضاء وقت، إنما يتمثل في ظهور أول تواريخ الأفراد والسيرة عبر العالم على مرحلة العصر العباسي.
وإذا ما تتبع البعض أصول هذه الظاهرة إلى السيرة النبوية الشريفة، إلا أن تعقّد الحياة والنظام في العصر العباسي قد أدى إلى ظهور أول معاجم الـــWho is who في العالم، وقد كان كتاب (طبقات الشعراء) لابن المعتز العباسي أول الغيث، ثم ما لبث هذا المصنف، الأول من نوعه في تاريخ ثقافات العالم، أن تبعه مؤرخون عباسيون في تواريخ وسير أصحاب الحرف وأولي الأمر والسلطة، ثم تواريخ حياة الخلفاء وأصحاب الإمارة، ناهيك عن التواريخ الكبرى الخاصة بالحواضر العظمى إذ تمت التورخة للمدن الرئيسة من أمثال الكوفة والأبلة، ثم مكة المكرمة ودمشق والموصل وبغداد والقاهرة، من بين سواها من حواضر العالم الإسلامي الزاهرة على سنوات العصر الوسيط. وهذه، لعمري، ظاهرة متفردة لأن مؤرخ المدينة لا يكتفي بحكايات تأسيسها وبنائها ونموها فقط، بل هو يتجاوز ذلك إلى العبقريات التي استولدتها ورعتها تلك المدن العظيمة من بنائين ومهندسين وأطباء وصيادلة وأعمدة ثقافة وشعر وأدب!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق