أ.د. محمد الدعمي
” إن عمليات رصد العقل العربي ومحاولة إدراك آليات تفكيره التي يعجز عنها العقل الغربي، إنما تتطلب الإرتجاع الى الماضي لسبر أغوار عبثية أو عدمية هذا العقل وهو طافٍ بين بحرين لا تسبر أغوارهما: بحر الرمال، من تحت أقدامه وأقدام ناقته الصبور؛ وبحر النجوم المبعثرة فوق رأسه، في عالم لا زمني بمعنى الكلمة. لأن هذا العالم لا ينصاع لدقات تقسيم الساعة،”
ـــــــــــــــــــــــــــ
عندما انتاب اليأس العقل الغربي، في خضم محاولته فهم وإدراك آليات تفكير العقل العربي، تلك الآليات التي قادته الى تنفيذ هذه الأعداد الكبيرة من العمليات الإنتحارية، حيث يحتضن الإرهابي المادة المتفجرة، كما تحتضن الأم ابنها وابنتها. هنا تصاعد عجز العقل الغربي عن العقلنة، الأمر الذي قاده الى الاستئناس بآراء وببصائر الراسخين في العلم من العرب أنفسهم، عسى أن يزودوا العقل الغربي بلمحات عن أصول عبثية أو عدمية بعض العقول العربية.
وإذا كان العقل الغربي جاداً في هذا الجهد، فإن عليه أن ينتقل بماكنة الزمن الى اللحظة التي انتصب فيها جدنا ” قس بن ساعدة ” أمام حشد كبير من العرب، ليعلن: “ايها الناس، إسمعوا وعوا، وإن سمعتم شيئاً فانتفعوا: أن من عاش مات ومن مات فات. وكل ما هو آت آت”. في الجملة الأخيرة أعلاه، سبق “إبن ساعدة” جميع الفلاسفة الوجوديين في أوروبا، من سارتر الى كامو، من بين سواهم، بقرون في ملامسة اللاجدوى، حسب تعبير “البير كامو” المفضل. وإذا كان الإسلام، هذا الدين الحنيف قد اضفى الجدوى والمعنى للحياة العربية فيما بعد، فإن عدمية العقل العربي بقيت تقاوم، تبرز في آن، وتنام في آن آخر.
بل إن أقوى تجلياتها قد تجسدت في “ديوان العرب”، اي لسان حالهم الشعري، عبر تقليد بكاء الأطلال: ذلك أن الشاعر العربي لا يمكن أن يتناول موضوعاً أو غرضاً مهماً في قصيدته قبل أن يذرف الدموع أولاً! ثم، أي بعد إنتشاء ذرف الدموع، يخرج منديله لمسح عينيه وخديه، ليباشر الموضوع الجاد. هل توجد “وجودية” أكثر من هذه؟ إنها واضحة المعالم حتى لدى بعض ملوك العرب في الجاهلية، من أمثال أمرئ القيس الذي قال: “اليوم خمر وغدٌ أمر” وهو يستمع لخبر جلل. هو يمتلك ذهنية لاتختلف كثيراً عن ذهنية إبن ساعدة عندما قال “وكل ما هو آت آت”، أي فليكن مايكون Cai Sera Sera، حسب التعبير اللاتيني.
إن عمليات رصد العقل العربي ومحاولة إدراك آليات تفكيره التي يعجز عنها العقل الغربي، إنما تتطلب الإرتجاع الى الماضي لسبر أغوار عبثية أو عدمية هذا العقل وهو طافٍ بين بحرين لا تسبر أغوارهما: بحر الرمال، من تحت أقدامه وأقدام ناقته الصبور؛ وبحر النجوم المبعثرة فوق راسه، في عالم لا زمني بمعنى الكلمة. لأن هذا العالم لا ينصاع لدقات تقسيم الساعة، فذبذبته الوحيدة تتجسد في توالي الليل والنهار، وفي تتالي المواسم الحارة والباردة. وهي الذبذبات التي تنامت من حركة اقدام البعير لتغدو أوزاناً شعرية تضبط كامل الثروة العربية، أي الشعر، قبل عصر النفط، بطبيعة الحال.
المهم في هذا السياق هو أن النفط قد عبث بذبذبة الحياة وبآليات تفكير العقل العربي، بل وبالإنسان العربي ذاته: عندما هجر هذا الإنسان جمله، ليمتطي طائرة الـ”جامبو” متنقلاً بين “هيثرو” و “كنيدي” و “ديجول”، واضعاً أغلى الساعات السويسرية الذهبية على معصمه. وإذا كان “قس بن ساعدة” المتعرق بحرارة الصحراء تفوح منه روائح العناصر الأولية: الرمل، العرق والطعام، فإن عربي المطارات الدولية أعلاه لا يمكن أن يغادر اي واحد من هذه المطارات دون ابتياع قنينة من عطور “ديور” أو “سانت لورانت”"، من بين سواها من الماركات التي لا تمت بصلة لعطور بلاد العرب الثمينة كالعود أو الصندل أو العنبر أو اللبان.
لذا يضيع العقل الغربي في حيرته من أجل الإحاطة بآليات تفكير مكافئه العربي: فالأخير لا يفكر كثيراً بالمستقبل، كما يفعل الأول، لأنه يغطس في الماء ليستخرج ثمن مملكة بيده على شكل لؤلؤة، كما وصفه الشاعر الأميركي إيمرسون Emerson.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق