أ.د. محمد الدعمي
تتجلى الإرادة السلطوية الكامنة خلف عنوان “الشرق الأوسط”، للعيان في حقيقة مفادها أن هذا الإقليم الشاسع الذي يمتد عابرًا بين قارتين إنما يحرم (بهذه الطريقة) من بعض ميزاته المهمة التي بقيت ترادف أجزاءً منه لحقب عديدة، على أقل تقدير: عندما نتكلم عن الشرق الأوسط، فإننا نتجاوز، ضمنًا، ترادفه مع عنوان “أرض الكتب المقدسة” ومع عنوان “مهد الحضارات”.
من الصعب أن يجزم المرء فيما إذا كان الفرد، أو مجموعة الأفراد الذين يولدون في إحدى دول إقليم الشرق الأوسط “المهمة” محظوظين أم لا. ولا يقل صعوبة إدراك المرء لماذا حرم هذا الإقليم الشاسع من جميع أسمائه التاريخية كي يقحم في “البدلة الجاهزة” التي جهزتها أوروبا له، أي تسمية “الشرق الأوسط”، فقد أطلق هذا العنوان على الإقليم من قبل ذهنية أوروبية كولونيالية مأخوذة بالتصنيف التعميمي الذي لا يخلو من دلالات النظرة المستعلية المنطوية على تقييم معياري دوني جارف. لذا فرضت هذه التسمية غير الدقيقة من الأعلى زيًّا موحدًا على أقوام متنوعة تقطن أراضي شاسعة تمتد من أفغانستان، شرقًا إلى ليبيا، وأحيانًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، متجاوزة الخصوصيات الديموغرافية والطوبوغرافية. كما تؤشر هذه التسمية النزعة التعميمية الجارفة التي كمنت وراء ذهنية متعالية، إن لم نتطرق إليها كمرآة عاكسة لمفهوم جيوستراتيجي تبلور فيما بعد: فليس “الشرق الأوسط” عنوانًا تاريخيًّا ولا جغرافيًّا دقيقًا بدلالاته. هو عنوان كولونيالي بامتياز، بدليل أننا نلاحظ أن الإقليم يتسع وينكمش على نحو غامض، حسب رغبات المتكلم الغربي المتسلط وأغراضه، علمًا أنه يشمل (من الناحية التاريخية) أقوامًا بلغات وأديان وثقافات لا يمكن قط أن تنبع من أصل إثني أو ثقافي واحد. لذا، فإن هذا العنوان، الشرق الأوسط، إنما هو عنوان مبهم، ذلك أنه عنوان سائل وتحجيمي لأنه يهمل خصوصيات ثقافات وأديان جماعات إثنية ودينية غير متجانسة. يخدم هذا العنوان فقط عين المستعمِر (بكسر الميم الثانية) التي تتيح لخيلائه نظرة مسح شمولية عامة عندما يريد أن يضع ضحاياه، بغض النظر عن متغيرات العنصر والدين واللسان في صنف تحجيمي خانق. لذا ينزعج الترك أو المصريون عندما يمزجون مع سواهم على نحو متعامٍ كما هي عليه حال الفيتناميين والكوريين واليابانيين عندما تستفزهم دلالات عناوين من نوع “آسيويين” أو “شرقيين” التحجيمية.
تتجلى الإرادة السلطوية الكامنة خلف عنوان “الشرق الأوسط”، للعيان في حقيقة مفادها أن هذا الإقليم الشاسع الذي يمتد عابرًا بين قارتين إنما يحرم (بهذه الطريقة) من بعض ميزاته المهمة التي بقيت ترادف أجزاءً منه لحقب عديدة، على أقل تقدير: عندما نتكلم عن الشرق الأوسط، فإننا نتجاوز، ضمنًا، ترادفه مع عنوان “أرض الكتب المقدسة” ومع عنوان “مهد الحضارات”. زد على ذلك تجاوز هذا العنوان شخصية الإقليم العربية الإسلامية السائدة عبر قلبه الجغرافي. لذا فإن هذه التسمية لا تنطبق على نحو دقيق مع رؤى بناة الإمبراطوريات الأوروبية الذين اتفقوا على هذا العنوان الشمولي نظرًا لتوافقه مع الفكرة الأوروبية التمركز التي تملي “قياس” بقية أقاليم العالم حسب طول المسافة الفاصلة بين تلك الأقاليم وبين “المركز”، أي بينها وبين بريطانيا وفرنسا، أي بينها وبين لندن وباريس.
ومن منظور ثانٍ، يعكس خص هذا الإقليم الشاسع والمتنوع بمثل هذا العنوان التحجيمي، ذلك الخيلاء المبطون الذي كان قد اخترق العقل الأوروبي عبر العصر الذهبي للكولونيالية، لأنه كان بدرجة من التكابر والتحامل أنه وجد صعوبة في أن يعترف، ولو ضمنيًّا، بأن هذا الإقليم هو الذي منحه أهم صفاته المميزة، أي التقليد الديني اليهودي ـ المسيحي ـ الإسلامي السائد في أوروبا، أي التقليد الروحي للأقوام السامية الروحية، ذلك التقليد المؤسس على عقيدة التوحيد.
في الحقبة الذهبية لبناء الإمبراطوريات الأوروبية بدا من غير المعقول للذهنية الأوروبية المتغطرسة أن تعترف بمديونيتها لشعوب الإقليم الخاضعة لها. وقد عكس الشعور بالتفوق تلك الدلالات المتحاملة. بل إن الأكثر لا عقلانية، بالنسبة لأوروبا، كان التسليم بالمديونية الثقافية التي ألقت الشكوك على القناعة الأوروبية القديمة المختزلة في الاعتقاد بأن أوروبا إنما هي كيان ثقافي مستقل وذاتي الاكتفاء. لذا فإن العقل الأوروبي، والغربي عامة، يتكهرب عندما ندّعي أن حضاراتنا القديمة سبقت وبزت حضارات أثي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق