رواية
"ظلال الغياب" لعناق مواسي، فتح جديد في عالم الرواية الفلسطينيّة!
محمّد صفّوري
توطئة
أعارني الأستاذ الصديق سهيل عيساوي مشكورًا، رواية
"ظلال الغياب" للكاتبة عناق مواسي، فقرأتها بنهمٍ وتأنٍّ شديدين، وقد
استحوذت عليّ، فلم أستطع تركها إلّا بعدما انتهيت من قراءتها. إنّها رواية ذات
نكهة خاصّة، تمسك مضامينها المتنوّعة بتلابيب القارئ فلا يستطيع منها فكاكًا حتّى
يأتي على نهايتها، ناهيك بما توظّفه الكاتبة من آليّات سرديّة وتقنيّات فنّيّة
كثيرة، تأتلف وتختلف منسجمة مع الموضوعات المطروحة فيها.
هي قصّة طويلة أو رواية قصيرة، نزولًا عند مشيئة
الكاتبة، توزّعت الرواية على سبعة فصول متفاوتة في أطوالها، تجعل الكاتبة لمعظمها
عنوانًا قبل الولوج إليه باستثناء الجزء الأوّل من الفصل الأوّل، والفصل الثاني،
وكذلك الفصل الأخير، وهي تصدّر كلّ فصل بعبارة قصيرة تختزل فكرة ما، يسمّى شعارًا
أو Motto"" يوحي من قريب أو من بعيد بالموضوع المطروح في كلّ فصل، ومن
ذلك على سبيل المثال، نظرتها للمدن المقدّسة، الكتابة، عقدة المفاتيح، بين الحبّ
والوطن، ونحو ذلك.
اختارت الكاتبة اسم "ظلال الغياب" لروايتها
ممّا يشير في تصوّرنا للثيمة المركزيّة في الرواية، وهو الغياب وما يترتّب عليه من
تبعات مختلفة نجد لها حضورًا بارزًا في تضاعيف الرواية، سيأتي تفصيلها فيما يلي.
حول المضمون
تعتبر رواية "ظلال الغياب" بَوْحًا موجعًا لما
يجيش ويعتمل في أعماق النفس الأنثويّة من آلام نتيجة الحبّ الخائب الذي منيت به
البطلة بعد قرار حبيبها بتوقّف العلاقة بينهما، وانفصاله عنها، رغم حبّها الجارف
وتمسّكها به وعدم رغبتها في الابتعاد عنه، وعليه تنسل الكاتبة من هذه التجربة خيوط
روايتها وتكشف فيها عن ظلال غياب الحبيب عن بطلتها، وما لحق بها من عذاب ومعاناة
نتيجة ذلك الغياب.
تسترجع البطلة في رحلة معاناتها من ذلك الغياب بعض أقوال
الحبيب، ومن ذلك قوله: "مُدّي يديكِ إلى الأشياء لتتحرّك، فأصابعك قادرة على
أن تؤنس الجمادات وتتحكّم بها"(الرواية: 38)، ثمّ تعلّق قائلةً: "وعلّمْتَني
أنّه إذا دخل الحبّ في وريد الأشياء، فإنّنا بذلك نضخّ فيها الحياة، فمَنْ سيمدّ
يديه إلى قلبي وأنت مصمّم على الغياب؟ وأنا التي أحتاجك لتبرّر لي كلّ لحظة من
لحظات غيابك"(38). ممّا يشير إلى أنّ قرار الغياب قد صدر عنه، وأنها تحتاج
تبريرًا لغيابه.
تستحوذ البطلة على مساحة النصّ برمّته، ويكاد القارئ لا
يشعر بحضور الحبيب في فضاء الرواية اللّهمّ إلّا في الكلام المرويّ الذي تنقله
البطلة عنه، وبذلك يتآزر غياب الحبيب عن البطلة مع غيابه عن النصّ، معلنًا فداحة
ذلك الغياب، فهل جاء غياب الحبيب عن النصّ صدفة، أم أنه أمر مقصود ليعزّز جسامة
غيابه عن المحبوبة، وما تبعه من ظلال فطرت نفس المحبوبة؟
زاد صمته الدائم في عذابها، واتّسعت مساحة الصمت بينهما،
فزادتها فجيعة القطيعة جنونًا، لكنّها كانت تمنحه كلّ الأعذار لتأخّره في التواصل
معها، فيخيب أملها ويبقى على صمته(25- 26)، وفي ذلك تقول: "وبينما كانت كلّ
احتمالات بقائنا سويًّا (سويّةً) تتساقط كقطع الدومينو، كنتَ بدلًا من أنْ تمدّ
يدك لتمسكها وتمنعها من السقوط، تتخلّص منها، ترميها جانبًا تمهيدًا للبدء بتشكيل
لوحة أخرى جديدة أكون فيها خارج التشكيل"(26).
تظهر البطلة مصرّة على استمرار علاقتهما، مؤمنة باستحالة
ابتعاده عنها، لتقول: "ما زلتُ لا أصدّقك، فامرأة مثلي استطاعت الوصول إلى
أعماقك، واختلطت مع كريات دمك البيضاء، لا يمكنك تركها بسهولة، بل ستحتاج لعمر آخر
تضيفه إلى عمرك وأنت تحاول نسيانها، وفي النهاية لن تستطيع [...]، ثمّ تدعوه لعدم
التسرّع في قرار الفراق، فتقول: "تريّث قبل أن تُقدم على اتّخاذ أيّ قرار،
وإيّاكَ أنْ تختزل علاقتنا أو تختزلني بكلمة، فأيّ منطق هذا الّذي يقبل على نفسه
اختزال المحيط الواسع بمستنقع يمكن لشمس آذار اللطيفة أنْ تجفّف مياهه حتّى آخر
قطرة"(27).
لا تتنازل البطلة عن حبيبها أبدًا، وتظهر متمسّكة بحبّه
الذي تغلغل في قلبها حتّى النخاع رغم قراره بالابتعاد عنها، وتفسّر له سبب تمسّكها
به قائلة: "ربّما تتساءل عن سرّ هذا التمسّك بك، حسنًا، سأبوح لك به، أنا في
الحقيقة لا أبحث عنك، وإنّما أبحث عن نفسي التي وُجِدَت بكَ ولأجلك، أليس هذا أعقد
أنواع التيه والضياع؟ النفس التي تجد صورتها في بحيرة الآخر الصافية، فيصير الواحد
منّا الآخر المشتهى"(27).
هكذا تواصل البطلة، على مساحة الرواية كلّها، مناجاتها
لحبيبها، والبوح بحبّها الجارف له، مصوّرة آلامها وعذاباتها لقراره الجائر
بفراقها، فتقذف كلّ ما يفور في قلبها متوجّعة تارة، ومعاتبة تارة أخرى في خطابها
له رغم غيابه عنها، أو معلّلة سبب تمسّكها به، ولائمة له في مواضع أخرى، لتأتي
الرواية بوحًا ذاتيًّا مؤلما بضمير المتكلّم، لكلّ ما يعتلج في نفسها نتيجة ذلك
الغياب الذي أصرّ عليه الحبيب، الأمر الذي يجعلنا نعتبر الرواية رواية نفسيّة في معظم فصولها.
تعبّر البطلة عمّا ألمّ بها من عذابات، خاصّة وهي تثير
بكلامها شفقة حبيبها عليها، فتقول مخاطبة إيّاه: "أتدري يؤلمني أنّني أثير
شفقتك عليّ، وأنّ كلّ الدنيا تنغرس سكاكين في قلبي، ومع ذلك لم أتردّد، المهمّ أن
أستفزّك بأيّ شيء، لقد دفعني شوقي إلى أنْ أعدل عن كلّ قراراتي وكلّ هزائمي. لا
أدري كيف أمكنك أن تضغط على كوابح الهواء في نبضنا، وترفع إشارة القفل أمامي،
وأمام هذا المدّ الجارف من العاطفة"(121).
تعود البطلة مرّات كثيرة ومع نهاية الرواية أيضًا، إلى
ذلك المطعم الفرنسيّ الصغير الذي التقته فيه مع بداية الرواية، في مدينة القدس،
علّها تلمحه هناك، فترى سيّدة وكأنّها تبحث عن شيء مفقود، ثمّ تخرج المرأة من
المطعم قاصدة محطّة القطار، تلوّح بيدها، تهرول، ثمّ تحتضن رجلًا، يهمّان بصعود
القطار، وقد أمسك يدها، ترى البطلة نصف وجهه، فتصيبها رجفة شديدة، وهي تقول:
"لا، لا يمكن أن يكون هو"، تصرخ البطلة بصوت مخنوق، ويضيع صوتها في
الضجيج، ينتبه الجنود لصراخها، ثمّ ركضها، فيركضون في اتّجاهها، وهي تنادي على
حبيبها، وقبل أن تكمل خطوتها الثانية، يبتلع صوت الرصاص كلّ شيء(127 – 129). هكذا
تعلن الكاتبة عن دائريّة الرواية من ناحية، وتشير من ناحية أخرى، في تصوّرنا، إلى
النهاية المأساويّة المغلقة، أي مقتل البطلة برصاص الجنود.
بين باريس والقدس
تتّخذ الكاتبة مدينتي باريس والقدس لتشكّلا الفضاء المكانيّ
الذي تتمّ فيهما أحداث الرواية، مظهرةً تعلّق الحبيب بمدينة باريس وحبّه لها
وأثرها عليه، تقول البطلة: "عندما التقيته أوّل مرّة كان فرنسيًّا في كلّ
شيء، شفاهه، لغته المحكيّة وأسلوب كلامه، وكذلك طقوس الشرب التي يهيِّئها في
أمسياته، وحتّى أسلوب إمساكه بالكأس"(12). يبدو أنّ حبّ باريس أخذ منه كلّ
مأخذ ليستحضرها في ذيل كلّ حكاية يسردها، مسترجعة كلامه: "أحبّ باريس وسوف
أحبّها من جديد كلّما وقع نظري على جواز سفري، وكأنّي عريس يدخلها لأوّل مرّة،
[...] وأحبّ الفرنسيّات اللواتي يمررن أمامي ببساطة، لكنّي لا أريدك فرنسيّة، بل
أريدك كما أنت تختزنين كلّ إبداع الفرنسيّات الممشوقات على محيط خصرك وبين يديك،
دون أن تغادري جذورك"(13).
تصرّح البطلة أنّها أحبّت باريس: "لأنّه نقلها لي
بحبّ كبير، أضاءها في سراديب خيالي، وركبت على أحصنتها وتوّجني في قصورها، وحرّرني
من باستيلها، ألبسني أثواب النبيلات ووضع على رأسي إكليل الملكات وصولجان
الإمبراطورات، كدتُ أنسى هويّتي لأصبح باريسيّة" وتضيف نقلًا عن حبيبها:
"ولكي تحبّي بكلّ جوارحك يجب أن تكوني باريسيّة الثورة، وأن تنادي بفصل الدين
عن الحبّ، فالحبّ هو عمليّة الفصل المدرك، هذا الفصل الذي يعيد بناء الإنسان ويغيّر
مسار الدم عكس عقارب التقليد والحضور الكلاسيكيّ"(13 – 14).
أثار حبّه لباريس غيرة البطلة لتقول: "لو كانت
باريس امرأة لقتلتها خنقًا بأصابعي الملتفّة حول عنقها الطويل. أردت قتلها وإطفاء
الأضواء في عينيها الواثبتين، لأطفئ حبّه لباريس التي غرت منها، ومن شدّة حبّه
لها، كنت أريد أن اُعيِّشَه في قصّة عشق تنسيه باريس وجمالها"(14). ورغم
أنّها أحبّت باريس لحبّه لها، فهي ترى أنّ "القدس أجمل وأحلى وأشهى وأبهى.
أجمل من باريس وشوارعها وأضوائها، عشق لا ينضوي، مُضاء بقناديل المحبّة وزيت
مرتّلة عليه آيات وتسابيح، وأسفار مسافرة من القدّيسين، هذا العشق أبديّ مخلّد قبل
الثورات وبعدها، حتّى وإنْ سُيِّجت بحيطان صمّاء. العشق في هذه المدينة يعرج
بالروح إلى السماوات، ويفتح قلب الله للدعوات"(15).
يلاحظ القارئ حضور مدينة القدس بصورة مكثّفة في فضاء
الرواية، إذ تشعر البطلة بأوجاع في معدتها وبطنها لفترات متواترة تسكّنها بأدوية
عاديّة حسب تعليمات الطبيب، لكنّ أوجاعها لا تهدأ، فتقرّر أنّه من الضروري إجراء
فحوصات شاملة في إحدى المستشفيات، وعليه اختارت مستشفى هداسا في القدس، وتتاح لها
بذلك فرصة الصلاة والدعاء لقلبها أن يعود لمكانه! لمنزله، لدياره(41- 42). تنتهز
البطلة فرصة سفرها بالقطار إلى القدس، ملمّحة إلى وطنها المسلوب، وهي تمرّ بحقول
التفّاح والأجاص التي كان جدّها يضمنها، وتشعر أنّ لها روابط ذات جذور وصلة قرابة
بالمكان(40). بعد مغادرتها القطار في محطّة المالحة، تستقلّ سيّارة إلى المستشفى،
وترى في طريقها قرية "بيت صفافا"، حسبما أشار لها السائق الذي يسكن
فيها، ثمّ يشير إلى محطّة المالحة قائلًا: "كان اسمها قرية المالحة، لكنّهم
هدموها وبنَوا مكانها المحطّة، كانت ملعب أطفال وساحات وبيوتًا تخبّئ الكثير من
الحكايات"(46). كان السائق يروي لزبائنه، خلال سفرهم، "قصّة المهجّرين
الحالمين بالعودة، حيث كان يتعوّذ من شرور العساكر والدمار اليوميّ وضيق الخناق
على الروح المحاصرة"، ممّا يكشف عن ممارسات السلطة المحتلّة ضدّ الإنسان
والمكان.
تصوّر الرواية تمسّك المقدسيّ بأرضه وبيته من خلال وصف
رجل عجوز يجلس على كرسيّ أمام بيته، على لسان مرافقتها رجاء التي تقول: "إنّه
يجلس هنا على الدوام ليثبت للمارّين من كلّ الأجناس والأديان، أنّ له كيانًا هنا،
ووطنًا ودمعًا لم يسِلْ إلّا على خدّ الأرض، وسيبقى متمسّكًا بحقّه راسخًا في
بيته، لا يغادره إلّا ليعود إليه، بينما في الجهة الأخرى هناك من يريد انتزاع بيته
منه، فيرفع كتابًا مقدّسًا، ويتحدّث باسم نبيّ، ويشوِّه بطغيانه كلّ ما هو
مقدّس"(69).
تظهر البطلة تعلّقها الشديد بمدينة القدس، وترى أنْ لا
مثيل لها بين مدن الأرض قاطبة، إنّها تذكّر الزائر بسير الأنبياء، ويشتمّ فيها رائحة العطور
والبخور المقدّسة، تحتضنه المدينة بسهولها وجبالها وبكبريائها الّذي لا يشبهه أيّ
كبرياء، ويشعر فيها أنّه على مشارف بقعة ترفع منها الدعوات، فيعبر سماواتها
المفتوحة دون حاجة إلى وسيط(67)، لقد شرّش حبّ القدس في قلب البطلة ونفسها، فكانت
تبحث عن أيّ سبب لزيارتها، دون أي حاجز يحول بين سكان هذه البلاد، مهما وضعت
السلطات عوائق أمامهم دون زيارتها(67).
في المستشفى يطّلع الطبيب على فحوصاتها وتقاريرها
الطبّيّة، يوصيها بتناول ثلاثة أصناف من الأدوية، لكنّها لا تقتنع بتشخيصاته، وتقرّر
عدم تناول الدواء، والتوقّف عن إجراء أيّة فحوصات، لأنّها ليست مريضة(50).
البعد الثقافيّ والاجتماعيّ
تشير البطلة إلى الحياة الثقافيّة في مدينة القدس رغم
كلّ الظروف المعيقة، فتغادر المستشفى لحضور ندوة اليوم السابع في المسرح الوطنيّ
الفلسطينيّ في القدس الشرقيّة بإشراف الشيخ جميل السلحوت، استمعَتْ في الندوة أكثر
ممّا تكلّمَتْ، وتناولت طعام العشاء الذي دعا إليه السلحوت في أحد المطاعم بسرعة،
كانت متوترة لخشيتها من تأخّرها في العودة قبل الساعة الثانية عشرة ليلًا، وقد
تعذّر على السلحوت فتح باب سيّارته، لأنّه أدرك أنّ المفتاح الذي معه ليس مفتاح
سيّارته، ثمّ يجد المفتاح المطلوب ويوصل البطلة إلى محطّة القطار، فتصل إلى بيتها
قبل الثانية عشرة بدقائق معدودة(53- 60). هذه الحادثة وتوتّر البطلة البالغ
لانسياب الوقت بسرعة يعكس أثر التربية التي ينشأ عليها أطفالنا، وإلى ذلك تشير
البطلة قائلة: "فأكثر ما يعكّر صفوي هو العودة قبل منتصف الليل، هذا التوقيت
المحظور علينا منذ أن كنّا أطفالًا، غير أنّ عقارب الطفولة لا تزال تدور في ساعات
حياتنا وخاصّة فيما يتعلّق بمواعيد العودة إلى البيت ليلًا، وكأنّما في انتظارنا
من يسجّل الحضور والغياب"(13).
تلتفت البطلة لتصوير بعض مظاهر الحياة الاجتماعيّة
والظروف الحياتيّة لأهل القدس تحت وطأة الاحتلال وما يعانونه من قسوة الجنود
وممارسات السلطة ضدّهم، حسبما شرحتها لها مرافقتها رجاء التي تقول: "نعيش
جميعًا وكأنّنا أسرة واحدة، فجارنا الذي يعمل ليلًا، ويعود إلى بيته في ساعات
الصباح، نعرف مواعيد ذهابه وعودته إلى بيته، وإذا لم نسمع صوت زوجته ترحّب به عند
عودته صباحًا نشعر بالقلق عليه.. أصوات التلفاز تصدح في الحارة الضيّقة ظهرًا
تُنْبِئ بعودة الأزواج لأحضان زوجاتهم والأطفال في المدارس. هنا لكلّ صوت معنًى،
ولكلّ شبّاك شبه مغلق قصّة، ولكلّ باب مفتاح. وكلّ مجاز آخر، لا يفهمه سوى من يسكن
هنا وهنا فقط! أصوات الأطفال حينما يلعبون في ساحة المدرسة، روائح الطبخ تفوح
وتحلّق من دار إلى دار، لهفة الأمّهات وخوفهنّ وهنّ يتفقّدن صغارهنّ، وقت عودتهم
من المدارس، مخافة أن يكون الجند قد تعرّضوا لهم..[...] أخبرتني أنّه من المستحيل
أن يتمّ ترميم قطعة حجر واحدة هنا، ولا حتّى أن يُدَقَّ مسمار فيها"(70- 71).
يا لعقدة المفاتيح
صارت عقدة المفاتيح تلاحق البطلة بعد المعاناة التي مرّ
بها السلحوت مع مفتاح سيّارته، لتستحوذ عقدة المفاتيح عليها لدرجة الخوف على
نفسها، تقول البطلة: "كنت أخاف على مفاتيحي من الضياع، لم يكن حرصي على
المفاتيح بحدّ ذاتها، لكن ما كنت أخشاه أنْ أضيع أنا إذا ما ضاع المفتاح منّي،
فتصبح العودة تحتاج إلى إثبات هويّة ووثيقة ثبوتيّة"(65). وقد أدركَتْ "أنّ
لكلّ عودة مفتاحًا خاصًّا بها، وأيّ محاولة لدسّ مفتاح غريب في القفل سوف
تخيب"(59). تتعدّد المفاتيح بنظر البطلة، فتذكر مفتاح العودة، ومفتاح الرغبة،
مفتاح الشوق، مفتاح العقل، مفتاح القلب، ومفتاح الحلّ، وهي تلقي بظلال المفتاح على
علاقتها بحبيبها لتقول: "فتحنا قلوبنا للحبّ بنفس المفتاح، لكن الإغلاق لم يكن
بذات الطريقة، فهو قد أغلق عينيه عن رؤيتي، وأغلق أذنيه عن سماعي، وأغلق قلبه على
صورتي وصوتي المجلجل في كيانه"(87). تسترسل البطلة في إسقاط المفتاح على
علاقتها بحبيبها، وينقطع أملها بعودته إليها وقد أغلق بابه أمامها، تقول:
"ولماذا العودة إنْ كان بابك سيبقى مغلقًا أمامي بسترته الحديديّة، وأقفاله
السبعة، وستبقى مساميره الفولاذيّة منغرسة في إطار الباب مقفلة إيّاه إلى الأبد،
فمفتاح قلبك حبّي، وبابك الموصد أمامي ما هو إلّا تداعيات هذيانكَ أمام أصابعي
التي نحتَتْ لك من الصخر قلعة من حبّ، ونصّبَتْكَ ملكًا على عرشها، مفتاح قلبك هو
شوقي إليه الذي يذيب الفولاذ بتوهّجه. والله ما عدْتُ أعرف من منّا ينتظر العودة
في ظلّ سيطرة الصمت على كلّ ما بيننا؟ ولا عدت أعرف من منّا يملك
المفتاح؟"(87-88).
بعد أن تأكّدت البطلة باستحالة عودة الحبيب، وبعد تفكير
طويل تقرّر أنْ تهدي المفتاح رسالة، وممّا جاء فيها: "تُرى هل كنتَ تعلم
أيّها المفتاح وأنت منغمس في كوّة الباب من ذا الذي يحرّك قفل الباب بك ليدخل،
وإلى أين سيدخل، لماذا بقيتَ بين أصابعي وأعدتَني إلى مسقط رأسي بعدما جعلتَني
أهاجر ويهاجر معي كلّ شيء؟"(94). تعترف البطلة بهزيمتها في تجربة الحبّ ودور
المفتاح في تلك الهزيمة قائلة: "لا ريب أنّ هذا الحبّ قهرني وانتصر عليّ
بعدما كدتُ أصل إلى قناعة أنْ لا شيء يمكن أنْ يهزمني، وأنت كنت السبب في هزيمتي،
بعدما أقفلتَ بوجهي دروب العودة وفتحتَ قنوات الدمع لتشقَّ أخاديدَ على خدّيَّ،
فخذ روحي وارحل أيّها المفتاح"(95). لا تقوى البطلة على تقبّل قرار حبيبها
بالانفصال عنها، ولا تفكّر إلّا به، فكيف تتخلّى عن رجل لا تراه رجلًا عاديًّا يمشي
على قدمين، فتخاطبه قائلةً: "رجلٌ مثلكَ لن يُنسى، ولن يرحل إلّا كما يرحل
آخر الرجال الكبار، وتُقام له جنازة ملكيّة كلاسيكيّة مهيبة تليق به، غير أنّي
أقاوم احتقان الولع بك، ورغبتي العارمة في أن أدسّ خنجري في صدرك وأرى دمكَ يسيل
بين يديّ حبرًا، لأكتبك، وأكفّنك بالورق، وأسجّيك بعلم عسكريّ"(96).
يبدو أنّ المفاتيح أثقلت كاهل البطلة، إذ جرّت عليها
أعباء كثيرة بحضور صمت الحبيب الذي أنهكها، لتقول في النهاية: "وها أنا منذ
ضيّعْتُ صوتك، أجوب الأحلام باحثة عمّن يشبهك، لكن، لا شيء يشبهك أكثر من المدن،
وما زال مفتاح بابك في يدي، وما زلتُ رهينتك.. فيا لعقدة المفاتيح..."(117).
الكتابة
لا تدّخر البطلة أيّ وسيلة تتيح لها العودة إلى حبيبها،
فتعمد إلى الكتابة، فتقول: "أنا لا أكتب لأكتب، بل لأنّ الكتابة هي من
انكفاَتْ عليّ، وطوتني بين سطورها، لأقولني فيك أو لك. عندما بدأت كتابة كلماتي
إليك، كانت أصابعي تتلعثم، ترتجف، لا لصدع في سطور اللّغة، ولا لانهيار في حيطان
السطور، وإنّما هي رجفة الوصال، وصال الحبيب حبرًا وورقًا همسًا وبوحًا وأشياء
أخرى"(27-28). بذلك تتّخذ البطلة الكتابة وسيلة لتتواصل مع حبيبها الذي خيّم
عليه صمت قاتل، وفي ذلك تقول: "لا أنكر أنّي أكتب لعلّي أجد مفتاحًا لقلبك
وعقلك معًا، فطول الفراق بنى جدارًا فاصلًا بين قلبينا[...] ولربّما أكتب لأعترف
بأنّي أريد التغلّب على عقدي ونقاط ضعفي المصنّفة في عسر القراءة والكتابة شفويًّا
وخطّيًّا، طالما كان منطق الكتابة هو إيجاد مأوى لجنون الأفكار وثوريّة العنفوان،
لكي نشيّد طرقنا الضائعة في أتون الغياب"(30).
عمدت البطلة إلى توثيق نزيف ألمها ومعاناتها من حبّها
الضائع عبر الكتابة والحبر الذي صارت تعشقه، تقول: "يبقى التاريخ الشرعيّ
المطابق للتقويم الإنسانيّ هو الحبر على الورق، من هنا بدأَتْ علاقة عشقي مع
الحبر، سائلًا أحمل منه ولادات أخرى أكتبها على الورق وألد وأتوالد منها حالات
أخرى تتشكّل مرّة أخرى حبرًا على ورق"(114). ثمّ تتساءل البطلة متوجّعة لصمت
حبيبها الدائم قائلة: "أيّ منطق هذا الذي يجعل البطل ينتصر على الراوي ويستلّ
سيف الحبر في قلبه، فينزف حتّى يجفّ الصمت، ويكفّن بالورق الأبيض؟[...] ففي الصمت
تتفجّر ينابع الكتابة مثلما تتفجّر البراكين النشطة، لتسيل الماغما على الحوافّ
بفوضى وجنون"(118). تعلن البطلة مصير حبّها الجارف وانهزامها أمام تلك
التجربة، تقول: "كنتُ أعرف منذ البداية أنّ هذا الحبّ إمّا أن يتحنّط بالورق،
وإمّا أن يتخلّد على الورق، خفت أن يتحنّط قبل النهاية، وعلى ما يبدو، أثناء ما
كانت تلك المخاوف تنتابني، كان باب السماء مفتوحًا، فتحقّقتْ هذه النبوءة دون
سواها، ومع ذلك أحببتك وبقيت أعرف أنّي سأحترق، كما احترقت روما"(119- 120).
شعريّة الرواية وجماليّات الأسلوب
يُعتبر مصطلح "الشعريّة" أحد المصطلحات التي
أثارت الجدل بين الباحثين، الدارسين، ومنظّري الأدب، لما يكتنفه من غموض مضلّل، إذ
يتبادر إلى الذهن أنّ المصطلح خاصّ بالشعر فقط. يوضّح بعض الدارسين أنّه لا يُقصد
بالشعريّة ذلك المعنى الضيِّق الذي يعني مجموعة من القواعد أو المبادئ الجماليّة
ذات الصلة بالشعر، بل تتعلّق كلمة الشعريّة بالأدب عامّة، سواء كان منظومًا أم لا،
بل تكاد تكون متعلّقة بأعمال نثريّة على وجه الخصوص، وعليه ترصد الشعريّة في أيّ
عمل أدبيّ المقوِّمات الثيماتيّة والجماليّة التي يتّكئ عليها ذلك العمل، كاللّغة،
والأساليب المعتمدة في إنتاجه.
إنّ أبرز المقوِّمات التي تستند عليها رواية "ظلال
الغياب"، في تصوّرنا، هي اللّغة، إذ تكشف الرواية عن لغة سماويّة راقية تمتاز
بالاستعارات المبتكرة والتشبيهات المجترحة بعناية فائقة، فتأسر القلوب بجمالها،
مثلما تحرِّض العقول في استجلاء جمالها وروعتها، إنّها لغة تنسحب على معظم فصول
الرواية التي يخرج منها القارئ مؤمنًا أنّ هذه اللّغة هي المقوِّم المهيمن على
الرواية برمّتها. وهنا يعنّ أمامنا السؤال: ما الّذي أتاح للكاتبة استخدام هذه اللّغة؟
في اعتقادنا أنّه لمّا كانت الرواية من أوّلها إلى آخرها بوحًا نفسيًّا وتعبيرًا
مؤلمًا لما يجيش في نفس البطلة من مشاعر لغياب الحبيب، ظهرت معظم أحداث الرواية
أحداثًا داخليّة صوّرت كلّ ما يعتمل في نفس البطلة، معتمدةً على أساليب تيّار
الوعي، ممّا أوجب استخدام هذه اللّغة.
من نماذج هذه اللّغة ما جاء من حديث البطلة عن سفر
حبيبها، إذ تقول: "فهو وطني وأنا لم أسافر في دورته الدمويّة ليقذفني حنينًا
أبيضَ، وكيف يسافر دونما ختم من شفاهي على جواز سفره؟ كيف يسافر دون أن يغلق شرفة
فتحها الشوق، فيلفحه برد الفراق، ويصيبه زكام البعد؟"(100)، لقد أزعجها سفره
فاستسلمت لتساؤلاتها العديدة التي تدلّ على ألمها ورفضها لذلك السفر، موظّفة
استعاراتها المبتدعة التي ينطق بها النصّ.
تخاطب البطلة حبيبها الغائب، وهي تُعِدّ نفسها للوداع
قائلة: "لقد فتحتُ قبورًا للقوارير الفرنسيّة، وأخرى للمكاتيب بيننا، وقبورًا
لكلّ الوسائد المخمليّة، وسيّجت الأضرحة بأكاليل توليب عندليبيّ وأخرى بلون
العسجد، واخترت أثقل الألوان ملاءمة للرفات، والضريح الأكبر كان للمفتاح الذي
دفنته في صدري قبل أن أدفن صدري في التراب"(102)، وعليه تتخلّص البطلة من كلّ
تبعات علاقتها به، وتدفنها في التراب.
تلقي البطلة بما تحسّه من برودة مشاعرها على المكان،
فحين تدخل شقّتهما الباريسيّة، تقول: "كنت أمشي على أطراف أصابع قدميّ على
البلاط، كي لا أوقظ العتمة والسكينة التي تغمرها، فيسقط اللّيل من عيني ممزوجًا
بالكحل السائل.. حاولت أن أسحب قدميّ وأفرّ هاربة، في محاولة منّي للتخلّص من كلّ
هذا البرد الذي يسكنني، ولكنّني كنت أضعف من أنْ أنزعني من نيران ذكرياتنا التي
تحتلّ كلّ جزء في هذه الشقة"(36- 37).
وفي وصف علاقتها بحبيبها تقول البطلة وهي تجمع إلى لغتها
المجازيّة بين التشبيه والاستعارة: "لطالما كنت أحتاج يده لتربّت على ضلوعي،
فالقهر يتدلّى مثل عنقود عنب مختمر يحتضر قبل أن يصبح نبيذًا، وكنّا كعادتنا نبحر
في سفن الغرام، فلا يحكمنا زمان ولا نأبه مهما أبعدتنا المسافات عن شواطئنا إلى ما
وراء المحيطات، لكنّنا فجأة نرسو في موانئ الحزن، ونعود على جناح يمامة"(75).
يلتقي القارئ بمستوى آخر للغة الرواية وذلك حينما تنتقل
البطلة لعرض بعض الأحداث الخارجيّة، كسفرها إلى القدس للعلاج، حديثها مع سائق
السيّارة المقدسيّ، حضور ندوة اليوم السابع في المسرح الفلسطينيّ، جولتها في حواري
القدس برفقة رجاء، وغير ذلك، فتأتي الأحداث بلغة تقريريّة إلّا أنّها مطعّمة بلغة
مجازيّة جميلة، ومن ذلك عرض البطلة لما دار في ندوة اليوم السابع، إذ تقول:
"ورافقت المسافرين في رحلة جوّيّة على متن أمنياتي، عبرنا معًا محيطات
وحضارات، وتنزّهنا معًا في نزهة نقديّة، واللّغة العربيّة هي التأشيرة الّتي ختمت
على جوازات سفرنا، والّتي أتاحت لنا دخول جميع الأمنيات المحتلّة، وغير المحتلّة
في مدن الذكرى"(53). وفي مواضع أخرى من الرواية تأتي اللّغة في عرض الأحداث
الخارجيّة تقريريّة صرفة، بعيدةً عن اللّغة المجازيّة التي تحتلّ معظم فصول
الرواية، ومن ذلك ما سردته البطلة بشأن مفتاح سيّارة الدكتورة وفاء، فتقول:
"عند الحادية عشرة إلّا ربعًا، بعثتُ رسالة هاتفيّة إلى رفيف، طلبت منها أن
تخبر وفاء بأنّنا تركنا لها مفتاح سيّارتها في الدكان المقابل للمسرح
الوطني"(58).
الرواية وآليّات تيّار الوعي
طغت الأحداث الداخليّة على فضاء الرواية، ممّا أوجب
توظيف آليّات تيّار الوعي، كالاسترجاع، التداعيات، الأسئلة البلاغيّة، أحاديث
النفس الداخليّة، خطاب الغائب، والتكرار البارز بصورة كبيرة كحديث البطلة المبالغ
فيه عن الفراق وأثره، ممّا جعل الكاتبة تكلّف البطلة بمهمّة السرد بضمير المتكلّم،
وفيما يلي التفصيل:
الأسئلة البلاغيّة
تزخر الرواية بالأسئلة البلاغيّة الصّادرة عن نفس
معذّبة، فتصوّر مرّة عدم تصديقها لقرار حبيبها بالانفصال عنها، إذ تتساءل: "هل
تريد إقناعي بأنّك أصبحت مكتفيًا بعلاقة صداقة معي، وأنّك لست بحاجة لحبّ امرأة
تحاور الحلم في سريرك، تبسط يد النور من بلّورها، وكلّما التقت عيناكما دارت عقارب
الحبّ عكس عقارب الساعة، ونبضت في قلبك شرارة الحبّ الأوّل؟"(27). تتكرّر مثل
هذه التساؤلات لتعكس نفسيّة البطلة، مظهرةً عدم قناعتها بفضّ علاقته بها، فتقول:
"لكن كيف يعقل أنْ أعيد له مفتاحه ويعيد لي قلبي؟ أيّ تكافؤ هذا؟ وأيّ إنصاف
هذا؟ كيف تختزل مملكة الحبّ بمفتاح يمكن ألّا يلائم كوّة باب جديدة؟ كيف تتكافَأ
عودة الأشياء بعدما أصبحت أشياؤنا جزءًا منّا، وقلب كلّ واحد منّا بين ضلوع الجسد
الآخر؟"(86). تلمّح في بعض تساؤلاتها لبعض الأعراف الاجتماعيّة والتمييز
اللاحق بالمرأة الّتي لا تبيح لها أن تشارك في جنازة حبيبها، فتقول: "لماذا
لا يُسمح للنساء العاشقات أنْ يمشين في جنازات من يحببن... لماذا لا يستطعن أنْ
يربّتنَ بأصابعهنّ المخمليّة على رفات من يحببن... أيّ إنصاف هذا ألّا أكون إلى
جانبه وهو يحتضر"(104).ونحو ذلك من الأسئلة البلاغيّة التي تعكس نفسيّة
البطلة المرهقة من جهة، وتوجّه من جهة أخرى نقدًا لمجتمعها الّذي يتدخّل أفراده
فيما لا يعنيهم، كقولها: "أردت أن أقحم نفسي بتفاصيل الحادثة امتدادًا
لثقافتي الشرقيّة، حيث نقحم أنوفنا بما لا يعنينا"(73- 74)، ومثل ذلك تعريضها
بعدم استعداد أبناء مجتمعها للاعتذار، مشيرة لديواني محمود درويش
"الجداريّة" و "لا تعتذر عمّا فعلت" فتقول: "وأنا لن
أعتذر لك عن أيّ تصرّف فيه حبّ كبير، هذه هي ثقافتنا: ألّا نعتذر..."(121).
التكرار
يحضر أسلوب التكرار في الرواية بصورة مكثّفة، منذ بداية
الرواية وحتّى نهايتها، ومعظمه يرتبط بقرار الحبيب في انفصاله عن حبيبته وفراقه
لها، وما أن تخرج البطلة منه إلّا لتعود إليه الأمر الّذي يدلّ على تمسّكها به من
ناحية، ويكشف ما جرّه ذلك القرار عليها من آلام وعذابات من ناحية أخرى، فحين يقرّر
ذلك الحبيب فراقها، تترك رسالة نصيّة للمصمّمة الفرنسيّة تقول: "أريد فستان
وداع. فكلّ حبّ مغادر عائد إلى السماء، علينا أن نودّعه بأرقى الملابس
وأثمنها[...] وكلّما كان الحبّ أعمق احتجت إلى فستان غاية في الدقّة وفيه كلّ
تفاصيل الوجع، لكي نودّعه وهو ينعكس في دواخلنا وتسقط عليه الدموع كحبّات كريستال
لامعة في الليل"(19- 20). ثمّ تعود لتؤكّد وجعها لذلك الفراق قائلة:
"كان موجعًا بالنسبة لي أنْ أفعل هذا، لكنّي أرمّم نفسي وألملم أشلائي بعد
هذا الفراق القسريّ"(20). تقع البطلة في حيرة، فتقول: "والله لم أعد
أدري إنْ كنت أكتبك لأكفّن هذا الحبّ بالورق، أم ألفّه كالرضيع وأضمّه إلى
صدري"(29). في موضع آخر تكرّر موضوع الفراق عبر ما تثيره من أسئلة بلاغيّة،
معبّرة عن عجزها في التأقلم مع الوضع الجديد، كقولها: "أنت على دراية أنّي
عندما أكتب أقلّم الأوراق من دفاتري، أُسقط ما اصفرّ منها، فكيف سأجتثّ ورقتك
المخضرّة في دمي، هل يتساقط الحبّ كما تتساقط الأوراق؟ حاولت أنْ أبثَّ فيك نسغًا
يعيد الحياة لعروقك، لكنّك أغلقت مساماتك دوني"(37)، هكذا تواصل استحضار
غيابه على مساحة الرواية لتقول في النهاية: "كنت أعرف منذ البداية أنّ هذا
الحبّ إمّا أنْ يتحنّط بالورق، وإمّا أنْ يتخلّد على الورق، خفت أن يتحنّط قبل
النهاية، وعلى ما يبدو، أثناء ما كانت تلك المخاوف تنتابني، كان باب السماء
مفتوحًا، فتحقّقت هذه النبوءة دون سواها، ومع ذلك أحببتك وبقيت أعرف أنّي
سأحترق"(119- 120).
الاسترجاع
تحضر تقنيّة الاسترجاع بصورة بارزة في الرواية، لتستعيد
البطلة ماضيها الجميل معه فتخفّف من عذابها، ومن ذلك قولها: "كنتُ وبمجرّد
أنْ أفتح عينيّ صباح كلّ يوم أفتح ألبوم صورك، أتأمّلها واحدة تلو أخرى، أقبّل
عينيك، وأعيد الكرّة مرّات عدّة، أمضي أمسياتي معها، في سريري، مودّعة إيّاها قبل
النوم، ولا أغمض عينيّ إلّا لأخبِّئك فيهما، لكنّ صورك لم تكن لتنوب عن وجودك
الحقيقيّ مهما حملت لي كلماتك الّتي كنت تقولها لي، ولا عن لمسة أصابعك الحنونة
وهي تكتب لي، ولا حتّى الشمس التي تُخرج الفجر إلى الأبديّة، يمكن أنْ يكون لها
أثرٌ يحمل دفء همسك في قلبي بعبارة (صباح الخير)"(26). في موضع آخر تسترجع
البطلة مكالمة هاتفيّة بينهما، "يردّ عليها بصوت خافت: أحبّكِ يا مجنونة،
سأنهي عملي وأتصل بك. فتردف قائلة: "لم يسافر مرّة دون أن يكلّمني عشرات
المرّات قبل أن يغلق هاتفه وتقلع الطائرة[...] لكنّي هذه المرّة اتّصلت ولم يردّ،
فاتّصلت مرّة أخرى وأخرى وعشرات المرّات، لو كان مسافرًا لأخبرني، والهاتف لم يكن
مغلقًا، كان يستجيب لاتّصالي، هو الّذي لم يكن يستجيب (لحركشتي الرقميّة) وهل
يسافر العشّاق؟"( 99- 100). في هذا الاسترجاع ما يضيء الأمل في نفس البطلة
التي تتذكّر تواصله معها عبر الهاتف أيضًا، وربّما يشعرها بالراحة، لكن مع نهايته
تدرك أنّه هو الذي لا يريد التواصل معها، ممّا يعمّق من حزنها لغيابه.
أحاديث النفس الداخليّة
تنكفئ البطلة على ذاتها في عدّة مواضع من الرواية، لتغوص
في أحاديث النفس الداخليّة، معبّرة عمّا يجيش في نفسها من أوجاع علاقتها بحبيبها،
ومن ذلك قولها: "ولماذا الآن بالذات أولم أكتفِ من اجترار كلّ الذكريات، بكلّ
ما فيها من أوجاع...أصل بها إلى النهاية، ثمّ أعود أدراجي نحو البداية وأعيد
الكرّة، فأمرّ بها من جديد، وأعيش معها رحلة أوجاع جديدة، كما تمرّ عجلات القطار
على سكّة الحديد! ثمّ أجدني واقفةً أتأمّلني في المرآة، أصرخ بملء قلبي: "كم
عمرًا أحتاج لأحبّكَ دفعة واحدة؟"(51)، وفي هذا ما يكثّف من عذابها وآلامها
وما ألحقت بها تلك العلاقة من متاعب.
تتكرّر مثل هذه الأحاديث الداخليّة في الرواية، وهي
عائدة من زيارتها للقدس، لتفصح عن أثر ذلك
الحدث في نفسها، فتقول: "هل من الممكن أن أوقف نبض العقارب في معصم الأبديّة،
فأحتفظ بكلّ تفاصيل لقائي المقدّس، أشربها وأضخّها في مساماتي، أتوحّد مع السحر
والقدسيّة، أتنفّس من رئة اللقاء الموصول بالحبّ، والمعجون بالرغبة، أعود ودعواتي
المرفوعة إلى الله لا تردّ، وراياتي مرفرفة بيضاء وشفاهي حمراء لاهجة بالدعاء،
أتمتّع بكلّ ركعة صلّيتها في قدس الأقصى وكلَ تنهيدة حرّرتها من قلبي المعقود
بالشوق، أسترجع تفاصيل ذوباني حبرًا سائلًا على سطور اللقاء وكيف ولدتني العودة من
رحم الانتظار، وكيف ولد المفتاح من رحم العودة"(60). توضّح هذه المناجاة
سعادة البطلة في زيارتها لمدينة القدس وصلاتها في المسجد الأقصى، ممّا أتاح لها التحرّر
من أعباء الحالة النفسيّة التي مرّت بها.
خطاب الغائب
تلجأ البطلة لمخاطبة حبيبها الغائب الّذي لا يعي شيئًا
من عذابها فتبوح به لليلها، إلّا أنّها تحرّره من مسؤوليّته عن ذلك العذاب، ممّا
يعكس مواقفها المتناقضة لما ألحق بها، فتقول: "عانيت وأنا أبوح لليلي، وأنت
لست تدري شيئًا من معاناتي، كنت أكابر وأخفي كلّ ما بداخلي لأبدو طبيعيّة في نظر
من يراني من الناس، أتحدّث وأضحك، إذ لم يكن من وسيلة أمامي إلّا أنْ أسافر عبر
القطار كي أسحق وجعي وأسحق الذاكرة معي، ربّما لا ذنب لك في عذابي غير أنّ حماقتي
المتوغّلة في الحبّ وقدسيّته جعلتني أقترف جريمة في حقّ القداسة وعذوبة
الكلام"(85).
تلوم البطلة حبيبها لتركه إيّاها في مدينة غريبة، فتقول
مخاطبة إيّاه: "لطالما رافقني صوتك في دروب الحياة ذهابًا وإيابًا، فأيّ قلب
هذا الّذي أباح لك أن تتركني بمدينة غريبة؟ أعرف أنّك ما زلت هناك، في القدس، في
شارع ما، وما زلت تكتب لي تلك الرسالة، لتعمِّد الحبّ، وأتخيّلك وأنت تمشي بعيدًا
عن بندقيّة الجنديّ، لتفوِّت الفرصة على الرصاصة.."(117).
في موضع آخر تتحوّل إلى خطاب الموت، فتقول:
"العشّاق عندنا، يا سيّدي الموت يستشهدون وهم في طريقهم إلى حبيباتهم، في
محاولة منهم للتكفير عن الغياب، والنساء، يا سيّدي الموت، يحتفظن بالمفاتيح التي
تنتظرها الأبواب، إنّها حكاية مجنونة، لن أكون أوّل ولا آخر من سيرويها، أليس عجيبًا
أنْ تنتهي الحياة بتاء مربوطة، بينما ينتهي الموت بتاء مفتوحة...!"(104). في
هذا المقام لا بدّ لنا أن نشير إلى قدرة الكاتبة اللّغويّة، فإذا كانت الحياة
تنتهي بتاء مربوطة فلعلّها ترمي لنهاية الحياة، تلك الحياة التي لها آخر، أمّا
الموت فينتهي بتاء مفتوحة، بمعنى أنّه لا يتوقّف، وسيواصل حصد الأرواح على
اختلافها.
في موضع آخر تلجأ البطلة لمخاطبة المحيط قائلة:
"أيّها المحيط أعطني يدك، أعطني موجك، ها أنا أمدّ إليك يدًا من ورق، فهلّا
أشفقت عليّ وأخذتني نحو الغرق، ويدًا أخرى لأرسل بها سرًّا آخر، دعني أرحل مع
الموج الثقيل"(90). في هذا الخطاب ما يشير إلى أنّ عذاب البطلة في حبّها الّذي
بلغ مبلغًا لا تقوى على تحمّله، فتؤثر الموت على مواصلة الحياة، كما تعكس الأزمة
النفسيّة الّتي تعاني منها، فتلجأ لمخاطبة أشياء غير مسؤولة عمّا حدث لها في
علاقتها مع حبيبها.
تقنيّة التناصّ
يلتقي القارئ بمتناصّات كثيرة تستقيها الكاتبة من
الموروث الدينيّ، والموروث الثقافيّ الغربيّ والعربيّ، ممّا يعكس سعة اطّلاعها على
منجزات الدين، الأدب، والحضارة، فتذكر معراج الرسول محمّد (صلّى الله عليه وسلّم)
في طريق البطلة إلى قبّة الصخرة، لعلّها تجد لدعواتها معرجًا إلى السماء، تعيد
حبيبها إليها، فتقول: "عبر تلك الدروب الضيِّقة إلى قبّة الصخرة، كنت أرتجف
كلّيًّا، كيف لا .. ومن هنا عرج محمّد عليه السلام إلى أعالي السماء؟ كذلك أنا
أريد أن تعرج دعواتي إلى الله، بأن أعود إليه ويعود إليّ"(71)، كما تذكر
حديثًا للرسول وهي تتضرّع لعزرائيل ألّا يقبض روحها، تقول: "لا تقبض روحي..
لا تقبض روحي.. اتركها لتعيش في جسده.. أرجوك يا سيّدي عزرائيل، رفقًا بالقوارير..
دع لي حبيبي أرجوك.."(103)، ويبدو أنّها مولعة بالموروث الديني الإسلاميّ، إذ
تستحضر قصّة سليمان والملكة بلقيس الواردة في سورة النمل، مشبّهة ذاتها ببلقيس،
تقول: "لقد كان عشاؤنا خبزًا وماء وعسلًا، والسرير عرش سليمان الّذي لا يُحفظ
في الذاكرة البصريّة، ومشيت على الأرض أرفع فستاني مثل بلقيس في مملكة
سليمان"(116).
تلتفت الكاتبة في متناصّاتها للموروث التاريخيّ العالميّ
والعربيّ فتذكر حرق روما، إتلاف مكتبة بغداد في نهر الفرات، وغيرهما، تقول البطلة:
"وبقيت أعرف أنّي سأحترق، كما احترقت روما، وكما غرق الفرات بحبر بغداد، عرفت
أنّي سأصمت مثل أبو الهول، وأتظاهر بأسوديّتي وقوّتي"(120). ثمّ تستشهد بمقطع
شعريّ لشكسبير من مسرحيّة هاملت، تورده باللغة الإنجليزيّة، في أثناء تخيّلها
حبيبها وهو يردّده(120).
تُثبت الكاتبة بعض الكلمات الفرنسيّة مؤكّدة معرفتها
لتلك اللّغة بعد خشيتها من سؤال السائق عمّا تعرف منها، فتقول: "فأجد نفسي
مضطرة لأنْ أجيبه: بونجور، بونسوار، مسيو دوفاج، ليبغسيون، لافام فاتال، فيف لا
فغونس، وجوتيم"(48)، مضيفة أنّها تقرأ لسيمون دي بوفوار، وتعشق هيغو، وقد
زارت متحف اللوفر العظيم، وشاهدت الجيوكاندا، وأبحرت في نهر السين، ونحو ذلك(48).
تعنى الكاتبة أيضًا بالموروث الشعريّ العربيّ، فتورد
بعضًا من أشعار نزار قبّاني والبطلة تتوسّل لعزرائيل أن يترك لها حبيبها، فيردّ
عزرائيل قائلًا: "كان يكتب لك على هاتفه رسالة نصّيّة صباحيّة يقول لك فيها:
"إذا مرّ يوم ولم أتذكّر به أنْ أقول صباحك سكّر فمعنى ذلك أنّي أحبّك أكثر"(103)،
وفي هذا التناصّ ما يوضَح تعلّق الحبيب بحبيبته. تتعدّد المتناصّات من شعر نزار
قبّاني ومحمود درويش، ممّا يوحي بإعجاب الكاتبة/ البطلة بشعرهما، فحين ينسرب الوقت
سريعًا، تقول: "ترى كم بقي من الوقت للحبّ، عندها أتاني صوت محمود درويش:
"ويا حبّ، يا من يُسَمُّونه الحبَّ، من أنت حتّى تعذّب هذا الهواءْ/ وتدفع
سيّدة في الثلاثين من عمرها للجنون/ وتجعلني حارسًا للرخام الذي سال من قدميها
سماءْ؟/ وما اسمك يا حبُّ، ما اسم البعيد المعلّق تحت جفوني/ وما اسم البلاد التي
خيّمت في خطى امرأة جنّة للبكاء/ ومنْ أنت يا سيِّدي الحبّ حتى نُطيع نواياك أو
نشتهي/ أنْ نكون ضحاياكَ"، وفي هذا ما يصوّر عناء تلك المرأة المتماثل مع عناء
الكاتبة.
تقنيّة الاستطراد
يلاحظ القارئ أنّ معظم الاستطرادات في هذه الرواية
موظّفة على الغالب في سرد الأحداث الخارجيّة، فحين يحاول الشيخ جميل السلحوت فتح
باب سيّارته، توقف البطلة عمليّة السرد لتزويد القارئ ببعض المعلومات الإضافيّة عن
السلحوت، فتقول: "وهو العائد حديثًا من أمريكا حيث كان قد سافر لحضور مراسم
زفاف نجله من فتاة تونسيّة، فاجأني أنّ له خمسة إخوة وابنًا في أمريكا منذ ما يربو
عن العشرين عامًا، وهو الوحيد الذي لم يعش ويستقرّ هناك"(54)، بذلك تستدرك
البطلة نفسها مستحضرة بعض التفاصيل عن هذه الشخصيّة، فتلقي مزيدًا من الضوء عليها.
تتكرّر نماذج هذه الاستطرادات لتزويد القارئ بمعلومات
إضافيّة، ممّا يوقف سيرورة السرد ويبعد القارئ عن الملل، ويشوّقه لمعرفة المزيد،
ثمّ يعود السارد بعد الانتهاء من استطراده، فيواصل السرد بعيدًا عن الرتابة
والملل، ومن ذلك تفاصيل حياة البطلة التي ترويها للسائق بعد سؤاله لها، وهو ينقلها
إلى مكانها المنشود، وفي هذا الاستطراد يفهم القارئ أنّها من منطقة المثلّث، أمّها
ذات أصول فرنسيّة، تعرّف إليها والدها أثناء دراسته في فرنسا، أحبّا بعضهما
وتزوّجا، وهي حاليًّا تدرس الطب بتشجيع من خالها الجرّاح الّذي يعمل في أكبر
مستشفيات فرنسا، وقد حضرت إلى القدس في ذلك اليوم لإجراء بعض الفحوصات الطبّيّة في
المستشفى.(47).
تأتي هذه الاستطرادات بلغة تقريريّة مطعّمة في بعض
المواضع بلغة مجازيّة، تقول البطلة: "توجّهت إلى القدس من جديد، هذه المرّة
كانت للقاء السيّد وليام غرايسون من ولاية ميشيغن الّذي يقضي وقته بين الولايات
المتّحدة والقدس، وهو مسؤول عن مؤسّسة تسامح الأديان، كي نخيط نسيجًا من التواصل
بيننا نرفعه للعالم الثائر"(68). تعمد الكاتبة في التعريف بشخصيّات الرواية
إلى أسلو ب الإخبار التقريري، فلا تصوّر الشخصيّة من خلال الحدث، إنّما تركّز
معلوماتها عنها في فقرة واحدة بهدف التعريف بها، وتظهر معظم هذه الشخصيّات هامشيّة
تدعم البطلة وتساعدها في كشف تفاصيل المكان والأشخاص لتقدّمها في تقريرها، كذكرها
لرجاء، تلك الفتاة المقدسيّة لوزيّة القوام الّتي تجوب معها شوارع وحواري القدس لتوقفها
على حقيقة ما يدور هناك(68)، وكذلك صديقتها رفيف التي تعتبرها أجمل فتيات مدينة
القدس التاريخيّة، وهي الّتي بادرت لترتيب الأمسية في المسرح الوطني الفلسطينيّ،
بعد زيارتها لها في بيتها، تعمل في قسم الثقافة، بيتها قريب من محطّة القطار، وهي
تحفظ الطرق عن ظهر مقود"(55- 56)، وغيرها من الشخصيّات الأخرى المذكورة في
الرواية.
تبقى بعض الملاحظات الّتي نأمل أنْ تتخطّاها الكاتبة مستقبلًا،
كإسنادها الأفعال المضعّفة المزيدة لضمائر الرفع المتّصلة دون أن تفكّ الإدغام،
مثل كلمة "استمرّيْتُ" (ص52)، "استغلّيْتُ"(ص74)، والأَوْلى
أنْ تقول" استمْرَرْتُ"، و "استغْلَلْتُ، هذا علاوة على توظيفها
أفعالًا عاديّةً على شاكلة أفعال الشكّ واليقين، وفيها يكون الفاعل والمفعول به واحدًا
لضعفها، كقولها "لأقولَني" (ص27)، و "أنزعُني"(ص37)، وغيرهما،
وفي هذا خرق لقواعد اللّغة، ولا أدري لِمَ ينهج الشعراء والكتّاب هذا النهج ولا
مسوِّغَ لذلك.
وبعد؛ فإنّ رواية "ظلال الغياب" تُعَدُّ، في
تصوِّرنا، على قصرها، فتحًا جديدًا في عالم الرواية الفلسطينيّة عامّة،
والمحلِّيّة خاصّة، لما تنضح به من لغة أخّاذة تأسر العقول كما تأسر القلوب، وبما
تعكس من شعريّة رفيعة المستوى على الصعيدين الثيماتيّ والأسلوبيّ، وتبشّر بمستقبل
مشرق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق