الأربعاء، 9 أغسطس 2023

لا تغفل اللغات الأجنبية بقلم : أ.د. محمد الدعمي كاتب وباحث أكاديمي عراقي




لا يُمكِن للمؤرِّخ تتبُّع أصول النهضة في العالَم العربي وفي الشرق الأوسط دُونَ الرجوع إلى عصر والي الشقيقة مصر وحاكمها المطلق حقبة ذاك، محمد علي باشا، ذلك الرجل الألباني الأصل الذي أحبَّ مصر وعمل بمثابرة وبُعد نظر على تقدِّمها ونهضتها درجة موازاتها مع نهضة وتقدُّم الدولة العثمانيَّة (المتمركزة في الأستانة) التي عيَّنته واليًا وحاكمًا على مصر.
وتدلُّ جميع أعمال وإنجازات محمد علي باشا هناك على أنَّه أحبَّ هذه البلاد، وعلى أساس من ذلك قرَّر الارتفاع بها إلى مستوى أعلى وأكثر دوَل العالَم تقدُّمًا ورُقيًّا آنذاك.
وإضافة على عنايته بالقناطر ومشاريع الرَّي المعتمِدة على نهر النِّيل المعطاء (مصر هي هبة النِّيل)، لاحظ محمد علي باشا بأنَّ النهضة في مصر ترتهن بالاستفادة من تجارب دوَل العالَم المتقدِّمة، خصوصًا من تجارب تركيا العثمانيَّة ودوَل أوروبا على بواكير العصر الذهبي للتوسُّع الكولونيالي.
لذا، تنبه محمد علي باشا إلى أهمِّية اللغات الأوروبيَّة (الفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطاليَّة والإنجليزيَّة)، بطبيعة الحال. ولَمْ يستغرق ذلك من تفكير هذا الحاكم الراشد والرشيد ملاحظة ضرورة تكوين «جيش من المترجمين» القادرين على نقل العلوم والثقافات الأوروبيَّة إلى مصر الحبيبة.
لذا، سبق محمد علي باشا كافَّة دوَل المنطقة في تأسيس «كُلِّيَّة» أو «مدرسة الألسن» (مكافئًا لكُلِّيَّة اللغات الأجنبيَّة)، وعدّها بدرجة من الأهمِّية أنَّها لا تختلف عن المدرسة الحربيَّة العسكريَّة التي اضطلعت بتكوين نخبة رفيعة من الضبَّاط المصريين الكفوئين الذين تمكنوا من تلبية طموحات محمد علي باشا التوسعيَّة ليس لمدِّ نفوذه عَبْرَ وادي النِّيل العظيم جنوبًا باتِّجاه النوبة ثم السودان الشقيق، ولكن كذلك للسيطرة على فلسطين ثم بلاد الشام.
وبطبيعة الحال، أدرك «الباشا» بأنَّ طموحاته الكبيرة لا يُمكِن أن تتحقَّقَ دُونَ اكتساب العلوم والتقنيات الأوروبيَّة التي تمخَّضت الثورة الصناعيَّة عنها حقبة ذاك.
وتأسيسًا على ما تقدَّم، جاء تأكيد الباشا (رحمه الله) على اللغات الأوروبيَّة بوصفها الوعاء الذي احتوى على المعارف المدنيَّة والعسكريَّة التي كانت مصر بحاجة لها من أجْلِ أن تحتلَّ مكانها الطبيعي بَيْنَ دوَل العالَم المتقدِّمة.
والحقُّ، فقَدْ تابع حكَّام مصر من بعد الباشا ذات الخطوات التي أسَّس محمد علي لها على سبيل تقدُّم الشقيقة مصر وازدهارها حتى صارت هي دولة في صفوف دوَل أوروبا المتقدِّمة على السنوات الأخيرة من حُكم «الخديوي» الأخير!
والحقُّ، فإنَّ النهضة في مصر لَمْ تكُنْ ممكنة دُونَ خطواتها الأولى المعتمِدة على اكتساب اللغات الأوروبيَّة التي أهَّلت أفضل المهندسين والخبراء العسكريين من أبناء مصر الذين تمكَّنوا أن يبنوا مجد محمد علي باشا في مصر الشقيقة.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق