انطلق الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط كظاهرة رومانسية مارة؛ ولكنه سرعان ما أن تناهى من “رومانسية” مفرطة إلى درجة المواجهة والوجع. وقد تطورت هذه المفارقة عبر محطات ومحكات تاريخية متنوعة، ابتداءً مما سُمِّي بـ”حروب الساحل البربري عبر شمال إفريقيا” (1785-1815)، متواصلة عبر الحروب العربية الإسرائيلية، لتنتهي بغزو الولايات المتحدة العراق (2003)، ثم إلى سواها من الإشكالات حتى اغتيال السفير الأميركي، كريس ستيفنسون، في ليبيا سوية مع ثلاثة من مواطنيه الدبلوماسيين ببنغازي من قبل إرهابيين سنة 2012. ويشير الباحث “بيونج تشيون يو” Yu، في سياق رصده العلاقات بين الشرق وأميركا منذ أقدم مراحلها، أي منذ كولومبس، الأميركي الأول الذي دشَّن رحلته التاريخية من إسبانيا النصف مسيحية والنصف مسلمة متجهًا نحو الغرب لإكمال دائرة الأرض.
وهكذا اكتشف كولومبس “العالم الجديد” عن طريق الصدفة، متأسفًا لضم مترجم للغة العربية إلى فريقه، باعتبارها اللغة التي توقع كولومبس أنها متداولة في الهند “وجهته النهائية”، حيث إنه كان يفترض أن يكمل دائرية الأرض بالوصول إليها عبر هذه الرحلة العملاقة.
ضمَّت جهود تورخة العلاقات الأميركية بدول الشرق الأوسط عددًا من السرديات الطريفة التي زادت من “رمنسة” الصلات التاريخية، وبضمنها اكتشاف مخطوطة “حكاية عربية” كان الرئيس فرانكن قد ألفها، ثم يأتي استذكار الجيل الأول من العرب في أميركا، وكان جلهم من حداة العيس الذين استقدموا مع جمالهم لاستخدامهم بالحرب الأهلية.
لم يهتم الأميركان حقبة ذاك براكبي الجمال، بقدر اهتمامهم بالحيوان الصحراوي ذاته في سياق استخدامه في الحرب الأهلية. يمكن لهذا السرد، نموذجًا، أن يفسر واحدة من المحكات المبكرة للبراغماتية النفعية الأميركية التي تركت بصماتها على مجمل المدخل الأميركي لتلك العلاقات بالشرق الأوسط، أقوامه وتراثه، مذاك حتى استقرت على وضعها الذي نشهده اليوم: بضعة حكومات شمولية صديقة لواشنطن، وشعوب تضمر مشاعر عدائية لها.
عندما استقلت أميركا كجمهورية عام 1776، لم ينقطع التآصر الرومانسي بـ”أوريندا”4، أي بالشرق الأوسط، حسب تعبير الأديب ميلفل Melville (1819-1897)، متواصلًا بلا منافس في أعمال عدد من الشعراء والكتاب الخياليين الأوائل مثل واشنطن إرفنج Irving 1783-1859)) ورالف والدو إمرسون (Emerson (1803-1882. وبينما كان الأول مشغولًا بالمواد العربية والمغربية المتعلقة بإسبانيا، مسقط رأس كولومبس، انهمك الثاني برصد التصوف الفارسي دون سواه من الأفكار الشرق أوسطية أو الآسيوية. كما لم يكن ذلك الاهتمام الفكري المبكر سكونيًّا، كما كانت عليه حال عدد من الرومانسيين المبكرين؛ لأن الروح الرومانسي تواصل متقدًا، ممزوجًا بالجاذبية الروحية للشرق الأوسط، إقليم الكتاب المقدس. وهذا ما حدا هيرمان ميلفل ومارك توين Twain (1835-1910) أن يرتحلا صوب شرقنا، بينما انهمك إرفنج ببحث تاريخ (محمد وخلفائه) 5 بين 1849 و1850، واقعًا تحت تأثير سحر قلعة (الحمراء) الأندلسية (1832). خدمت المسحة الرومانسية للاهتمام الأميركي بالإقليم كواحدة من المعطيات غير المصلحية، على عكس المداخل المصلحية للقوى الكولونيالية الأوروبية إلى هذا الشرق حقبة ذاك. في أميركا، كان هذا الاهتمام فكريًّا وروحيًّا بصفة عامة، متواصلًا على نحو ضعيف حتى القرن التالي، متمثلًا في إشارات شعراء عمالقة من عيار ت. س. إليوت Eliot (1888-1965) وعزرا باوند (1885-1972) وفي أعمال صديقي الراحل عمر (1926-2010)، ابن عزرا باوند، إذ انتقى الأخير لابنه هذا الاسم تيمنًا بـ”عمر الخيام”. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصًا بعد نهاية الحرب الفيتنامية، انتقلت بؤرة الاهتمام السياسي والاقتصادي الأميركي غربًا، من أقاليم “أوشيانيا” (الشرق الأقصى) إلى “أوريندا” (الشرق الأوسط)، عاكسة تحوُّلًا مُهمًّا حيث راح تدفق النفط يغسل ويزيل الرومانسية الدينية “الطللية” السابقة التي لوَّنت استشراق القرون السابقة في أميركا، وذلك بمساعدة الحروب العربية الإسرائيلية 1948 و1967 و1973 وما تلا.
وبرغم من تراجع الرؤيا الرومانسية المتصلة بالشرق الأوسط لأسباب سياسية ومصالح اقتصادية، كما تجسد ذلك فيما أشاعته وتشيعه أفلام هوليوود السينمائية والصحافة وأفلام الصور المتحركة (دزني لاند) وروايات الشد العاطفي، من نوع رواية (موعد في سامراء) بقلم جون أوهارا O’Hara التي حصلت على جائزة “بولتزر”، فإن أميركا بقيت تهتم بالإقليم بأشكال متنوعة. والحق، فقد أزالت تحالفات الإدارة الأميركية مع بعض الأنظمة في الإقليم ما رسب من بقايا أحلام الرومانسيين السابقين لاستبدالها بالعلاقات المتوترة والمكهربة التي ساعدت على إيجاد جو شعبي عام مضاد لأميركا عبر الإقليم، جو أسسته الدعايتان الشيوعية والقومية، إذ أشاعته وهيأته للإسلاميين الجدد الجذريين لاعتماده واستغلاله على نحو تخريبي مغرض كما نراه اليوم. ولأن هذا النوع من العواطف العدائية لأميركا في الإقليم هو من ترسبات حقبة الحرب الباردة، باعتبار ما فعله الشيوعيون والقوميون العرب، فإن الإسلاميين الجدد لم يجدوا صعوبة في تطوير جدل يمكن ببساطة اعتماده من قبل أية جماعة سياسة مضادة لواشنطن حسب أغراضها وتكتيكاتها التعبوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق