علم الدين بدرية
كتاب الجنَّة الطبعة الرابعة يقع في مئة صفحة من الحجم
المتوسط باللّغتين العربيّة والإنجليزيّة، يضمُ أربعة وخمسين مشهدًا، صدر عن مركز
التراث التوحيدي ودار الحديث للإعلام والنشر.
للمرّة الثانية تتمحور اللّغة وتفقد ارتفاعها أمام نصٍ
أدبي ضخم وعمل أبداعي متميّز يجمع النضوج الفكري والوعي الكوني في تخوم عطاء فريد
وموضوع شائك يعبّر عن حاجة دفينة في روحانيّة الأنسان وهاجس إنسانيّ في تاريخ التّطور
البشري عبر كل العصور، للمرة الثانية تترنّح البوصلة وتفقد اتجاهاتها بعد تداخل
الأبعاد لتُصبح عوالم متوازية بين الحقيقة والخيال فتتألق مشاهد أبداعيّة في مسرحيّة
الحياة، فبعد العمل الإبداعي الفريد للشاعر وهيب وهبة (خطوات فوق جسد الصحراء)
الذي وصل ذروته في أعلى صور الثقافة الروحيّة والإبداعيّة الجامع لكلّ مقوّمات
البلوغ الأدبي في واقع تاريخي وانصهار إنسانيّ في الحضارة الإسلاميّة وبعد
الاكتمال في الشكل والظاهر بأنواره الجماليّة وتحديد الاتجاهات على أرض النبوءة، يأتي
هذا النص موغلاً في الباطن، في عمق الأعماق في شامبالا الحضارة الإنسانيّة، أنها
الجنّة البتول التي حاول وهيب أن يدخلها ويحلّ أسرارها ويفكّ رموزها عبر لوحة
واحدة تتجسد فيها الصور في انعكاساتها الكونيّة وأبعادها الفيزيائيّة والأثيريّة
أنها الجنّة ومداخلها الخمسة، فبين الإيمان والرجاء تُفتح البوّابات الأثيريّة
الخمس لتطلّ على جنّة عرضها السموات والأرض، يأخذنا الوهيب بعدما جاورت خطواته خطوات
الرسول الكريم وداست أعنّة أفكاره أرض النبوءة فأعلن ملحمة القصيدة في خطوات فوق
جسد الصحراء... يعود إلينا وقد غرس شجرة أصلها العرفان وكوثرها الحكمة في نصٍ موغل
في القدم من بدء التكوين حتى الكشف عن حدود الفردوس وكتابة المواثيق والعهود وإغلاق
الباب لحين الظهور الأخير، يعود ألينا شاعرُنا ليُمسرح الكلمة ويتخطى الحرف عبر
أربعٍ وخمسين صورة رسمها بريشته المخمليّة ولغته البليغة الأبداعيّة دون قيود تحدد
الشّكل والمضمون، لتخاطب العقول وتلامس الفردوس المفقود وتُبحر بنا عبر وحدة
الوجود لذلك المجاز، تُخلق الكلمة، يَنبثقُ النور يُضيء مشارف العوالم وتُفتح
أبواب الجنّة على لهفة التساؤل وتخيّل الاحتمال وجمال ما لا يدرك في سبر أعماق
الذات فيتجلى الشوق الكامن منذ الأزل في مرايا النفوس الخيّرة معلنًا أن الانتظار
لن يطول في اكتناه المعنى ومعاينته وانهيار السدود والأسوار بات قاب قوسين أو أدنى
لتشرق ثورة عرفانيّة معرفيّة في مفهوم الجنّة.
عندما قرأتُ خطوات فوق جسد الصحراء كتبت عن تجربة جماليّة
فريدة وقمّة إبداعيّة في ملحمة القصيدة،
كان الشكلُ طاغيًا والظاهر مكتملاً في أبهى رسالة، لكننا هنا أمام باطن الباطن وسر
الأسرار وحقيقة بين الواقع والخيال فجنّة الوهيب هي شامبالا، هي أرض المياه
البيضاء، هي حلم البشريّة منذ فجر التكوين وانتظام سبعين دور، نعم أنها رؤى غارقة
في القدم منذ ملايين السنين، أنها أرض الحكمة والحكماء عبر العصور، أنها واحة
الأسياد والمعلِّمين المكرَّسين وهاجس الموحدين والباحثين والأتقياء.
ها هو يعلن في الصورة الخامسة والسادسة أن للجنّة مجالاً
داخليًا حيث يسطع نور دافئ لطيف يتحكم بالاتجاه والوقت ومدارًا خارجيًّا يتحرك
دوريًا كمدار الإلكترونيات حول النواة في الذرة، منحنٍ معلق يتحكّم في جغرافيّة
المكان والزمان.
لقد استيقظ شاعرنا على صراخ الأرض المثقلة بآلام البشر
وآثامهم عبر العصور، أرهقه عذاب الملايين ومعاناة الأنسان فمد له يده ليدلّه على
معالم الطريق.
لكل لونٍ دلالته المجازيّة والفيزيائيّة، اللون الأخضر
لون العقل الذي هو جوهر غير مركّب وغير قابل للتجزئة عَرفه الشاعر منذ عَرف النُّطق
فكانت الكلمة دليلاً عليه، لذلك البوّابة الخضراء المؤديّة للفردوس شامخة، شاهدة
على قدوم أهل الخير ووصولهم الى الجنّة.
اللون الأحمر يثور حين يشتدّ الظلم والاستبداد وتفقدُ
الإنسانيّة عدالتها وطريقها القويم، لذلك البوّابة الحمراء تقف في أرض الجنان لا
تفتح الا حين يشتدّ ويعلو صراخُ المعذّبين في الأرض ويقرع أبوابَ السماء فيكون
الخلاص ويبدّل حال الصابرين.
اللون الأبيض تدركه عندما تضع أول قدم في جنة النعيم، يكسو
البيوت والطبيعة فيتّحد اللون والشكل ويعيش الإنسان والحيوان والنبات والجماد
والعناصر جميعًا في تآخٍ وسلام فيسطع الأبيض بلونه الحي ووهجه الشفّاف البلوريّ الصافي.
البوّابات الثلاث تقف صامدة من الأرض الى السماء، الخضراء تنتصب في الوسط، الحمراء
على اليمين والبيضاء على اليسار والحياة رمز والجنّة لغز والغاية وحدانيّة الخالق.
اللون الأزرق يغيّر شكل الأرض، لون السماء وانعكاس
البحر، البوّابة الزرقاء تتعالى تصل قبة السماء عناق جمالي، أنها حلم كل متأمّل،
زاهد يُبصر الموسيقى المنسجمة فيتّحد ويغرق بالأزرق.
اللون الأصفر، لون السنابل الذهبيّة المنحنيّة تواضعًا
بالحكمة، طريق الذهب حيث يلتقي الرمز بالصّورة فتشرق الشمس بروعة الأصفر عبر النور
والضياء وهنا تعلو البوّابة الصفراء تلمع وتعكس شمسًا دافئة معتدلة تظلل المكان وتحمل
القادم في خيوط من نور على جناحي فراشة تسمو نحو النور.
ويستمرُ شاعرُنا في طريقه وقبلته أرض الحكمة والحكماء
ورحلته الإيمان والتوحيد والصفاء واصفًا كل خطوة وكل منظر من روعة المكان وتداخل
الزمان وتشابك الأبعاد، ينجلي أمامه السراب وتظهر بوّابات الجنّة الخمس فيكون
العبور الى مدائن تحمل الألوان الخمسة، يصفها وصفًا دقيقًا بجماليات إبداعيًة
وريشة فنّان قدير .
ويختم الشاعر وهيب وهبة الصورة الرابعة والخمسين الأخيرة
بمشهد العائد الى أحضان الفردوس... النفس دون الجنّة غريبة تعيش الغربة والجسد فانٍ
والروح منفيّة في مشارق الأرض ومغاربها، يحثّك ان تكون معه مرافقًا ومقبولاً في أرض
الحكمة والنعيم، فيقول: اِخْطُ معي نحو الأمام نحو الجنّة، أمامك أرض منبسطة عشبيّة
تحت قدميك.
عزيزي القارئ والمتلقي، تحليل وقراءة هذه الصور والآيات
والمشاهد تطول الى ما لا نهاية وتتركك مندهشًا من روعة الوصف وحبكة النص والرسم
بالحروف والكلمات، إنها من أجمل المسرحيات ولا أريد أن أفقدك عنصر المفاجأة ولهفة
اللقاء بسردي... وأبقي لك مساحة واسعة ليسرح عنان أفكارك راسمًا مشاهد في قراءة
مسرحيّة القصيدة وألوانها الممزوجة بالرّوعة والإتقان.
وهكذا نجد أنفسنا أمام عمل ونتاج يصل ذُروته في أرفع
الصور الأدبيّة والثقافيّة الروحيّة التي تحمل نوعيّة متطوّرة، مختلفة ومتميّزة
وهي بحق قمة أخرى من القمم الإبداعيّة التي وصل إليها الأديب والشاعر وهيب وهبة. نرصد
بها تداخل العوالم وتمازج الألوان وبروز عناصر التفاؤل وتألق الأمل الأخضر كسبيل
للخروج من الظلم والظلام، الى أرض النور والسلام، لقد وفّق الشاعر بشكل باهر بأسلوبه
البليغ وسلاسته في التعبير، في تبليغ رسالته الإنسانيّة وإشهارها.
للشاعر الفاضل أتمنى المزيد من التقدم والعطاء الراقي
والمميز في الأدب وللقارئ الكريم أتمنى أن تكون له رحلة ممتعة عبر الطريق المرصوفة
بمشاهدها الروحيّة والإبداعيّة الغنيّة بقيمتها الأدبيّة والجماليّة المؤديّة الى
الجنّة وبوّاباتها الخمس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق