الاثنين، 1 يوليو 2019

المعلم يسترجع أوراق “الإنشاء”! د. محمد الدعمي

تيح مهنة التعليم نوافذ عديدة للاطلاع على حقائق وطبائع الإنسان من خلال جمهرة الطلاب الذين يوفرون لمعلميهم الفرص تلو الأخرى، ليس فقط لمعرفة هؤلاء الطلاب وأحوالهم، بل كذلك للاطلاع على ظروف عوائلهم وما يختلج المجتمع من مشاعر ومشاكل وتقلبات.
وإذا ما كنت معلما وابنا لمعلمة، فقد ظفرت بفرصة معرفة أكبر عدد من أبناء الطبقات الاجتماعية وبفرصة الاطلاع على أعمق عواطفهم وأفكارهم.
بيد أن عليّ أن أعترف بأني لم أحظ بفرص الحصول على هذه المعارف كما يفعل معلم التاريخ أو معلم العلوم الطبيعية والتطبيقية، ذلك أني بقيت معلما للإنشاء لعقود طوال قبل أن تحيلني جامعة بغداد إلى تدريس مواد أكثر تعقيدا فكريا للصفوف المتقدمة، وإلى وظائف إدارية أو قيادية أكاديمية، إذ كانت الأخيرة من المهمات الأكثر “ثقالة” على نفسي، كما يقال.
عندما كنت أدرس مادة الإنشاء في بداية عهدي بجامعة بغداد، اكتشفت أن “الإنشاء” إنما هو “البناء”. وإذا كانت هذه حقيقة لا يختلف عليها اثنان، فإنها فتحت أمامي ابواب التعرف على أفكار وخياليات و”فنتازيات” تلاميذي: منها المضحكة والطريفة وهي مدعاة للتندر، زيادة على المزعجة والمخيفة!
لهذه الأسباب زاد شغفي بالتعرف على ما يدور في أذهان تلميذاتي وتلاميذي، فلم أكن أعتذر عن قبول تدريس مادة الإنشاء، كما كان يفعل زملاء لي بسبب ما يعنيه ذلك من تصحيح وتصويب آلاف، بل وعشرات الآلاف من أوراق الإنشاء، لغةً وإملاءً، سلوكا وأفكارا! خصوصا وأني رحت ألاحظ بأن ما يخطه تلاميذي على ورقة الإنشاء إنما هو (في جوهره) “اعترافات” سرية كما يفعل الإنسان حين يختلي مع نفسه بلا رقيب من مجتمع أو أسرة. وهكذا أخذني تلاميذي إلى “غابات بتاجونيا” وعجائب الهند، قبل أن أقبل في بعثة لإكمال الدكتوراه في الهند! وبدوري أشكر تلاميذي الأعزاء على ذلك وعلى ما أماطوا عنه اللثام من غرائب وعجائب دواخلهم، اعترافات تسبر أغوار النفس الإنسانية، بغض النظر عن الجنس والعنصر والأصل ولون البشرة وفصيلة الدم!
وإذا ما حظيت بتدريس الفئة العمرية الشبابية في أعلى درجات عنفوانها وخيالاتها، فقد ظفرت باكتشاف طبيعة النفس الشابة، بل وفي أحيان أخرى على تعيين الحالات الشاذة المثيرة للقلق، خصوصا تلك القابلة للاستحالة والانحدار إلى غياهب “السايكوباث”، أي تلك الكارهة للإنسان ولسعادته. وإذا كنت ملتزما بالحفاظ على خصوصيات تلاميذي، حبا بهم واحتراما لمشاعرهم ولثقتهم بي أبا ومرشدا وصديقا، فإني أجد بأن السنين قد مرت بما يكفي لطي صفحات السرية والخصوصية كي يستذكر المعلم غرائب وطرائف النفس البشرية، دون ذكر أسماء أو عناوين، بطبيعة الحال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق