الجمعة، 3 يوليو 2015

هل نحن بحاجة لحملة محو الأمية المقنعة؟ بقلم البروفيسور محمد الدعمي



أ.د. محمد الدعمي
لم تتح أية تقنية أو وسيلة اتصال نافذةً واسعةً وواقعيةً للاطلاع على الرأي العام وعلى الشائع بين الناس والمتداول في مجتمعاتنا، أكثر دقة مما يطلق عليه اليوم تعبير “وسائل التواصل الاجتماعي”، إذ برهن لفظ “التواصل” على أهميته فأسًا ومعولًا لهدم الجدران بين الفرد وبين الجماعات والأفراد كي يطلع طرفًا التواصل على حقائق الأشياء ومكنوناتها عن كثب بمعزل عن كل ما هو محرج ومدعاة للخجل والانطواء.
وإذا كانت هذه حقيقة لا غبار عليها، فلا بد أن يتفق معي الكثير من التربويين والمهتمين بالثقافة والتنشئة في عالمنا العربي على أن هذا “التواصل” قد شكل مرآة دقيقة تعكس الصورة تردي ونكوص فئات اجتماعية واسعة في جوانب الثقافة العامة وأدبيات التواصل ولياقات التخاطب وأصولها، مع غياب الأثر المباشر على من تتواصل معه أو معهم.
وسائل التواصل، على تنوعاتها وفوائدها المتنوعة، قد أماطت اللثام عن اتساع مساحة التصحر الثقافي التي تتمدد يومًا بعد آخر عبر عالمنا العربي بفعل حركة الكثبان الرملية التي لا تجد من الغطاء النباتي (الثقافي أو التربوي) الأخضر جدرانًا لإيقافها أو لإبطاء عملية قضمها المتواصل للوديان الخصيبة عبر هذا العالم الذي يتصحر بسرعة فائقة.
وإن شاء المرء قياس وتقييم حركة الكثبان الرملية التي تخنق الوديان الغنّاء عبر مجتمعاتنا، فله أن يؤشر: (1) شيوع العاميات وطغيانها على اللغة العربية الفصحى؛ (2) فتح الدارجات من اللهجات المحلية الأبواب على مصراعيها للبذاءة ولتجاوز حدود اللياقة، إضافة إلى رفع التكلفة في المخاطبات، بين المعلم والطالب مثلًا، أو بين المواطن والمسؤول، مثلًا آخر؛ والأهم مما جاء في أعلاه، تأتي: (3) حال تدني الثقافة العامة إلى درجة لا يمكن لثقافة، سوى العربية الهابطة اليوم، أن تكن لها الاحترام والتقدير.
وإذا كانت وسائل “التواصل أعلاه قد بررت للمتواضعين من البشر الاستخدام الهابط للغة وللعامية، كذلك، من خلال إشاعة وتسييد ثقافة الصورة على ثقافة الجدل والاستئناس وتبادل الرأي والتشبث بالمعرفة، فإن الصورة المتاحة على نحو مجاني بملايين الملايين راحت لا تجد من يوظفها وينتقي من جمهرتها ما هو مفيد أو معرفي أو تمثيلي بالدرجة الكافية للاستزادة والتنشئة الحقة.
وهكذا عد البعض “التواصل” قناة لعرض “الخلاعيات” والغارقات في الإساءة للذوق العالم، زيادة على عد البعض هذا النوع من التواصل للإسقاطات النرجسية الذاتية، فتراه أو تراها تقدم صورة جديدة لنفسها مع كل بدلة جديدة بين الفينة والفينة. ناهيك عن “ترهات” اعتماد “التواصل” لأهداف التقرير اليومي: هذا أنا عندما استيقظت اليوم، وهذه هي مائدتي للغداء قبل ساعتين، درجة أنه لم يتبقَّ للبعض سوى تصويرات الـSelfie في الحمام أو الخلاء. ما هذه الجاهلية؟!
ناهيك عن عكس “التواصل” أعلاه لحال مفزعة تشيع اليوم بين شبيبتنا ونشئنا، وهي حال الافتتان بالعنف وبصور سفك الدماء، حتى أن المرء ليخال بأنه في متحف لأدوات القتل والتعذيب عبر التاريخ. وإذا كان هذا الميل للعنف والدموية لم يزل يمر دون ملاحظة كافية من السلطات على الملايين من المتابعين، فإنه يمكن أن يخدمنا، تربويين وقادة رأي وولاة أمر، على سبيل التنبيه إلى مخاطر الأمية المقنعة التي تعصف بمجتمعاتنا العربية من المحيط إلى الخليج، لتزيد من آثار الأمية التقليدية خطورة على خطورة، برغم وجود العديد ممن لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه يتصرف ويفكر على نحو حضاري أرفع من ملايين الذين يقرأون ويكتبون، للأسف!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق