في الوقت الذي ارتفعت فيه شعبية آيديولوجيا القومية العربية خلال حقبة ما بعد العثمانيين والإندفاع الكولونيالي الأوروبي، خصوصا بعد تحقيق الاستقلال السياسي لعدد لا بأس به من الدول العربية، صار من الضروري للأقليات الدينية والإثنية، التي كونت مع الأغلبية العربية موزاييك قلب الإقليم، أن تجد لنفسها موطئ قدم موائم للدور الذي يمكن أن تُعرف به هذه الأقليات ضمن «مهرجان عجائبيات الشرق الأوسط» الحديث.
دور يتوافق بدقة مع المسيرة الرئيسة لتحقيق الأهداف العربية الأساس في «الوحدة والحرية التي اعتمدها القوميون العرب جميعاً.
لقد قاد بحث الأقليات المضني عن هوية وبدور وهدف خاص بمتكلمي اللغة العربية في المسيحيين خصوصا إلى تأييد الآيديولوجية القومية العربية بوصفها جزءاً من جهد لصد الأيديولوجية الإسلامية والتخفيف من غلوائها المحبطة لآمالهم التي سيّست الدين وتوجته برنامجاً للمستقبل.
تلقي هذه الدافعية بين المسيحيين عبر الإقليم الضوء على تحمس هؤلاء للحركة القومية العربية، منظرين ودعائيين. لذا تجد ستة منظرين للقومية العربية، من مجموع ستة عشر، ليسوا من المسلمين. من هؤلاء يجد المرء الأسماء المهمة التالية: خليل السكاكيني (مسيحي فلسطيني) وأحمد زكي (كردي) وأمين الريحاني (ماروني لبناني) وجورج انطونيوس (مسيحي لبناني) وميشيل عفلق (مسيحي سوري) وقسطنطين زريق (مسيحي سوري) وشكيب أرسلان (درزي لبناني).
لقد جسد هؤلاء المندفعون للفكرة القومية العربية حاجة الأقليات الدينية لشيء من الاعتبار الإجتماعي والهوية الذاتية في عصر مفارقات لم يسبق أن خبروا مثله من ذي قبل.
أما على الجانب المعاكس لهذه الحاجة الماسة للتعريف بالذات وللاضطلاع بالدور السياسي الذي خص الأقليات المسيحية، أيدت الأقليات اليهودية في الشرق الأوسط الحركات الشيوعية واليسارية قبل تأسيس إسرائيل وبعده، لأن الحركات اليسارية شمولية، تميل لتسوية جميع البشر على مستوى واحد من دون تمييز على أساس الدين أو اللون أو العنصر.
قد يكون من المناسب في سياق مناقشة هذه «المفارقة الثانوية»، ملاحظة أن عدداً لا بأس به من قادة الحزب الشيوعي في الدول العربية كانوا من اليهود, وليس اقل أهمية من هذه الظاهرة في هذا السياق، هو أن هؤلاء الشيوعيين اليهود أسهموا بحماسة منقطعة النظير بتأسيس «عصبة مكافحة الصهيونية» في العراق من أجل تجسيد موقف موحد يتواءم مع مواقف الفئات الاجتماعية الأخرى بقدر تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، ناهيك عن أهمية هذه «العصبة» بالنسبة لهم درعاً لحماية الذات من تهم الصهيونية.
وكما كانت عليه المعضلة مع بقية الأقليات، اسهم يهود العراق (المتبقين فيه من زمن السبي البابلي) ويهود سورية وفلسطين ولبنان ومصر وإيران والمغرب وتونس واليمن وتركيا، في التعريف بأدوارهم ضمن «المسيرة الكبرى» نحو الإستقلال التي بوشرت على أنقاض الدولة العثمانية وتحرر أجزائها الشرق أوسطية العربية من تركيا العثمانية, رغم أن الرؤيا القومية العربية تتناقض مع آمال اليهود بتأسيس دولة يهودية في فلسطين.
وليس اقل أهمية من ذلك أنهم ما كانوا ليجدوا موطئ قدم لأنفسهم في أي برنامج إسلامي يمكن أن يذكرهم بالتمييز الذي قاسوه عبر التاريخ، بوصفهم من «أهل الذمة»، ذلك الوصف الذي كان معتمداً طوال تواريخ الخلافات الإسلامية.
وهكذا توسعت «سايكولوجية الشتات» إلى سوى اليهود من الأقليات الدينية والإثنية التي وجدت نفسها فجأة مجزأة ومعزولة عن أوطانها الأصل بسبب تأسيس دول الشرق الأوسط الجديدة حسب معطيات مصالح البريطانيين والفرنسيين في جهدهم لإستغلال الأقاليم المنفلتة من الإمبراطورية العثمانية.
لقد تولدت تعقيدات هذه الحال المؤرقة والحديثة الظهور على أحوال الأقليات خصوصا لأنها شعرت بالتهميش بينما قطعت أوصالها بالحروب والعنف أو بالتنافسات الدولية بعد أن كانت تحيا متماسكة تحت ظل إمبراطورية واحدة.
هذا هو ما يلقي الضوء على الشعور المتواصل بالخذلان والمرارة الذي يقاسيه الأرمن والبارسيون (الزرادشتيين) والمندائيون واليزيديون والآشوريون والشركس والكلدان، والكرد بخاصة. لذا تبعت «ذروة» سقوط الإمبراطورية العثمانية، ذروة ما يسمى »نقيض الذروة» المتمثلة بتفتيت هذه الأقوام وتوزيعها، مشطرةً، بين عدة دول ناشئة.
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق