مقدمة : ديوان " قصائد
تلاحق الضباب " هو
المجموعة ُ الشعريَّة العاشرة للشاعر
والأديب والمهندس " ملحم
خطيب " – شاعر الكرمل
الأشم -
ولهُ كتبٌ وإصداراتٌ أخرى غير الشعر - في
النقد والترجمة - والجديرُ بالذكر ان
أحدَ دواوينهِ الشعريَّة بعنوان
:" فتاة الزيزفون " طُبعَ
في لبنان
. أمَّا هذا الديوان الذي بين أيدينا " قصائد تلاحق الضَّباب
" فيقعُ في ( 95 ) صفحة
من الحجم المتوسط الكبير -
صدرَ عن دار المشرق للترجمة والطباعة - شفاعمرو - مطبوع
بشكل أنيق وجميل تُحلِّيهِ لوحة ٌ ملونة ومعبِّرة على الغلاف .
مدخلٌ : يحتوي الديوانُ
مجموعة ً من القصائد المختارة تتمحورُ في مواضيع
متعدِّدة ، كالرِّثاء ، والمديح
والوصف والغزل والفلسفة والهجاء
والوجدانيَّات... إلخ . سأركِّزُ في هذه المقالةِ الأضواءَ على بعض القصائد
الهامَّة مع التحليل، التي تُجَسِّدُ وتعبِّرُ عن فحوى الديوان ومضامينه وأبعادِهِ ، ومن خلالها
يستطيعُ القارىءُ أن يأخذ َ ويكوِّنَ فكرة ً متكاملةعن الشاعر ومستواه الإبداعي ونوعيةِ كتاباتهِ
ومتاهاتِ آفقها وتشعُّباتِها... وذلك
تجنبًا للإطالةِ .
إنَّ قصائدَ الديوان جميعها عموديَّة ( كلاسيكيَّة تقليديَّة )
سوى القصيدة الأخيرة منها، ونحن نجدُ شاعرَنا المخضرم الفذ "ملحم خطيب " لهُ مقدرة
كبيرة وإلمامًا واسعا في معرفة
الأوزان الشعريَّة (علم العروض) وَتعَمُّقا وتمرِّسًا
منقطع النضير في اللغةِ
العربيَّة ونحوها وصرفها ... إضافة إلى ذلك
موهبته الشعريَّة العظيمة وحسّه الفني المُرهف وخياله الواسع المُجنَّح
وإبداعه وأسلوبه المميَّز الجديد وإلى ثقافتهِ
الشَّاملةِ العامَّة وسعة إطلاعهِ وتبحُّرهِ
في شتَّى المواضيع العلميَّة والأدبيَّة ... إضافة إلى تجَاربهِ الغزيرة المُثمرة في الحياةِ، فينعكسُ كلُّ هذا
وذلك بشكل تلقائيٍّ
ومُباشر في شعرهِ وأدبهِ .
وكلُّ قارىءٍ يلمسُ
ويرى هذا بوضوح في شعرهِ
. يهدي ملحم خطيب ديوانه إلى
روح والدهِ الشيخ "أبو حسن عبد الله خطيب" الذي
توفيَ قبل عدةِ سنوات وكان
شيخًا جليلا محترما مُبَجَّلا ومعروفا في البلاد .
ويقتتحُ الديوانَ بقصيدةٍ رقيقةٍ يرثي
فيها والدهِ ، ولكننا لا نجدُ
في هذه القصيدةِ مسحة َالحزن ِ
والالم ولوعة الفراق واليُتم .. بل التفاؤُل والأمل وحبَّ الحياة والإستمراريَّة في البقاء
والعطاء، فالموت هو حق ٌ علينا جميعا ولا يعني إذا مات الإنسانُ أن توقفَ وتنتهي الحياة ُ بموتِهِ .. وهذه القصيدة تذكرنا بقصيدةِ الشَّاعر التونسي الكبير رائد الحداثة
والتجديد في العصر الحديث ( أبو
القاسم الشَّابي) عندما رثى والدَهُ
حيث يُصرِّحُ فيها
أنهُ لم يكن يدرك أنَّ بعدَ موتِ والدهِ سيظمأ
للحياةِ ويتعطَّش لمباهجها وسيغرفُ من
ينابيعِها وشهدها قدر المستطاع .
يقول أبو القاسم الشَّابي :
( " ما كنتُ أعلمُ بعدَ موتِكَ يا أبي وَمشَاعري
ملأى منَ الأحزان ِ إنِّّي
أنِّي سأظمِأ
للحياةِ وأحتسِي من
كأسِهَا المُتفرِّدِ النَّشوان ِ") .
ويقولُ شاعرنا ملحم خطيب :
( " لا أقولُ اليوم
قد غابَ القمَرْ
وأنطوَى في التربِ ميتا
واندَثرْ
أو شباب
العمر وَلَّى وانقضَى لهفي –
يا حسرتِي غابَ القمَرْ
إنَّ خيرَ
القول ِ مدحٌ صادِقٌ
أنصفَ الممدوحَ وصفا
وانتشَرْ )
وبإختصار نحنُ نجدُ صبغة َ الإيمان في هذه القصيدة ِ فالموتُ هو مصيرُ كلِّ كائن ٍ
حيٍّ وعلى الإنسان أن
يستمرَّ في حياتِهِ ويستمتعَ
بمباهِجها ولا يميتُ نفسَهُ
بموتِ أحدِ المقرَّبين ، وعليهِ أن
يحيا الحياة َ كما يجب
وينظرُ إليها بمنظار إيجابي
جميل ومشرق .
وهنالك قصيدة ٌ أخرى في رثاءِ
والدِهِ بعنوان :" سهم الموت "
وهي على بحر الكامل يبرزُ فيها الوعة
والحزن العميق لفقدِ والدِهِ، والقصيدة ُ مترعة ٌ بالحكمةِ والفلسفة وتحيطها
هالة ٌ من الإيمان ، يقولُ فيها :
( " يشوي الوجوهَ
غدوُّهُ ورواحُهُ ويبدُّ
أكداسَ العبادِ ويصرعُ
لا الارضُ يشبعها القبورُ ولا الرَّدَى في
قصفِ أعمار ِ البريَّةِ يشبعُ )
وهذه القصيدة ُ تذكِّرنا أيضًا
بالقصيدةِ العينيَّة للشَّاعر
الجاهلي المخضرم " أبو ذؤيب الهذلي" التي يرثي فيها
أبناءَهُ وقد أنشدَها للنبيِّ محمَّد
(صلعم ) - يقولُ ملحم :
( وإذا المنيَّة ُ انشبتْ
أظفارَها ألفيتَ
كلَّ توجُّع ِ لا يشفعُ
ويقول أبو ذؤيب
الهذلي :
( وإذا المنيَّة ُ أنشبتْ
أظفارَهَا لوجدتَ كلَّ
تميمةٍ لا تنفعُ
)
.. وربَّما يكون هنالك تواردُ خواطر
بين الشَّاعرين (المخضرم والعصري)
وكثيرا ما يحدثُ مثل
هذا بين الشعراء والمفكرين .
ولننتقل إلى باب آخر من
الديوان وهو باب المديح
والتهاني حيث يمدحُ ملحم خطيب بعضَ الشَّخصيَّاتِ الهامَّةِ محليًّا من أدباءِ ومفكِّرين وشعراءٍ وأصدقاء لهُ تربطهُ معهم زمالة ٌ وعشرة ٌ طويلة.ٌ.ونحنُ
نلمسُ في
مدائحِهِ المحبَّة َالخالصة الصافية للممدوحين والإخلاص والوفاء
والعرفان بالجميل بعيدًا
كل البعد عن التَّمَلُّق . ويتجلَّى
هنا أسلوبهُ المميَّز في الكتابةِ
وحسن اختيارهِ للكلماتِ والمفرداتِ الجميلة الغذبةِ المُمَوسَقةِ
الأخَّاذةِ في العقول والضمائر والألباب وإلى المستوى الرَّاقي من ناحيةِ الفكر
والعمق والموضوعيَّة
، ولا
يوجدُ تكلُّفٌ في كتاباتِهِ أو لغوٌ
واستهلاكٌ وابتذالٌ للمعاني والألفاظ ، وهو متمكِّنٌ جدًّا من أدواتِهِ
الشِّعريَّة ومن الأوزان واللغةِ العربيَّة ...أي غير منقاد للوزن وعبد لهُ بل
الأوزان طوع يديهِ يتحكَّمُ ويتصرَّفُ بها كما
يشاءُ دونما تعقيدٍ
أو إرهاق فيكتبُ عليها جميعا
بسهولةٍ وعفويَّة ، وتأتي أفكارُهُ وأبياتهُ منسابة ً متناغمة ً متجانسة ً بعيدة ً عن
التكلُّفِ . إنَّهُ في
جميع كتاباتهِ ومجال
قدراته للإبداع والتطور
يأتي بالمعاني الجديدة
المبتكرة وبالإستعاراتِ البلاغيَّة الحديثةِ
والتشبيهاتِ التي لم يستعملها
أحدٌ قبلهُ .. وتمتازُ كتاباتهُ بالبعدِ الإنساني والفلسفي
والفكري الشامل .
وأمَّا في باب المديح والتهاني -
في الديوان - فيمتدحُ ملحم خطيب
فيه بعضَ الشَّخصيَّاتِ
الهَامَّةِ محليًّا من
أدباء ومفكِّرين وشعراء
وأصدقاء لهُ تربطهُ معهم زمالة وعشرة طويلة . ونلمسُ في مدائحهِ المحَبَّة َ الخالصة للممدوحين والإخلاص والوفاء بعيدًا كلَّ البعدِ عن التملق والنفاق للمصلحةِ
الشَّخصيَّةِ ... السُّلوك الذي ينتهجُهُ بعضُ الشعراء غيره وهم معروفون ... ويتجلَّى هنا
أسلوبهُ المميَّز في الكتابةِ وحسن
إختياره للكلماِت والمفرداتِ
الجميلةِ العذبةِ المُموسقة ِ الأخَّاذةِ في العقول
والضمائر والألباب والذي يشيرُ ويُؤَكِّدُ على المستوى الراقي من ناحية
الفكر والعمق والموضوعيَّة ، ولا
يوجدُ تكلُّفٌ في كتاباتهِ
أو لغوٌ واستهلاكٌ وابتذالٌ للمعاني والألفاظ ، وهو متمكنٌ
جدًّا من أدواتهِ
الشعريَّة ومن الأوزان
واللغةِ العربيَّة .. أي غير
مقادٍ للوزن وعبدٍ لهُ ، بل الأوزان طوع يديهِ يتحكَّمُ ويتصرَّفُ
بها كما يشاء دونما
تعقيد أو إرهاق فيكتبُ عليها جميعا بسهولةٍ
وعفويَّة ، وتأتي أفكارُهُ وأبياتهُ منسابة ً متناغمة ً متجانسة ً بعيدة ً عن التكلُّف
. إنهُ في جميع كتاباتهِ
ومجال قدارتهِ للإبداع والتطوير
يأتي بالمعاني
الجديدةِ
المبتكرة وبالإستعاراتِ البلاغيَّة الحديثة والتشبيهات التي لم
يستعملها أحدٌ قبلهُ .. وتمتازُ كتاباتهُ بالبعدِ
الإنساني والفلسفي والفكري الشامل
... ومن أجمل ما كتبه في باب
المديح قصائد في مديح
كلٍّ من :الشاعر محمود الدَّسُوقي
... وفي ولدهِ " إيهاب " وفي صديقه
الشاعر حاتم جوعيه ( أنا )
فيقول في ولدِهِ إهاب مثلا :
( لي فيكَ أنشودة ٌ ضجَّ الحنينُ
بها على سطور ٍ إليها القلبُ يرتحلُ
فأنتَ زيتونة ٌ
خضراءُ أنعشَهَا رفُّ
النسيم ِ بها الإجلالُ
يكتملُ )
نجدُ في هذه القصيدة العاطفة
الأبويَّة الصادقة والتضحية والفداء لأجل
ابنه . ويقول أيضا
:
( سأكتبُ أشعاري إليكَ
بأحرفٍ يعيشُ هوانا
ما نعيشُ وتكبرُ
وأهديكَ خمرَ الحبِّ من دنِّ خاطري معتَقة ً
تروي صباكَ وتسكرُ
ومن "كرمل ِ"النسرين ِ والوردِ والشَّذا إليكَ
حنيني بالأحاسيس ِ أسهرُ ) .
في هذه القصيدةٍ تتجلَّى بوضوح ٍ العبقريَّة ُ الشعريَّة ُ
والموهبة ُ العملاقة ُ الفذ َّة والمقدرة
اللغويَّة ، وقلَّما نجدُ شاعرًا محليًّا في
بلادنا يكتبُ شعرًا
كلاسيكيًّا في هذا المستوى الرَّاقي والإبداع المبتكر .
وأمَّا قصيدته المهداة
لي ( حاتم جوعيه ) بعنوان " قمَّة
الفنِّ " فيقولُ فيها :
( "أعبيرٌ من خلودٍ
أم ضياءْ
ينشدُ الشِّعرَ
بأبراج ِ
السَّماءْ
شعَّ في ليل
المآسي حكمة ً أينعَتْ
في دوح ِ عمري
فأضاءْ
وكسَى الوجدَ
قصيدٌ رائعٌ
بالأماني " حاتم ٌ
" رمزُ الإخاءْ
حاتمٌ كالبدر
... فجرٌ مُشرقٌ جاءَ
يزهو في ثيابِ
الأوفياءْ
هوَ رمزُ الحبِّ بل كلّ الوَفا
وربيعٌ في
مغاني الأنبياءْ
يتسامى الشِّعرُ
في ألوانِهِ يتهادَى في
اختيال ٍ وغناءْ )..إلخ
ولننتقل إلى باب آخر في الديوان وهو
موضوع الوصف، حيث تبرزُ فيهِ
موهبتهُ بوضوح ، ويتألَّق إبداعيًّا في
هذا الموضوع وقليلٌ من الشعراء
المحلِّيِّين الذين كتبوا
وتوسَّعوا في مجال
الوصفِ من جميع
الجوانب ( وصف الطبيعة والبيئة والحياة والجمال... إلخ ) . وفي قصائده
الوصفيَّة يذكِّرنا ملحم خطيب بروائع
جبران خليل جبران وبشعراء المهجر، وبشعراء مدرسة " أبولو " التي هي امتداد
للمدرسةِ المهجريَّة ، وبكبار
شعرائها ، مثل : ( أبو القاسم الشَّابي ، أحمد زكي أبو
شادي ، وعلي محمود طه
ومحمود حسن إسماعيل
... وغيرهم ) . يقول
ملحم مثلا :
( سيبقى بريح السَّهل قمَّات
الرُّبى فيضيعُ
نفحُ شذائِها
المتأرِّج ِ
والعطر غنَّى عن سطورِ النرجس
ِ وبلحن ِ حُبِّي
عندها لم تلهج ِ) .
ويقولُ أيضًا :
( " لا تذكري للدوح ِ
لقيانا بأحضان ِ الغديرْ
والرَّوضُ ينفحُ بالشَّذا فنتيهُ
في جوِّ العَبيرْ " )
.
أمَّا في قصائدِهِ الغزليَّة
فينسابُ الحسُّ الفنِّيُّ المُرهفُ والعاطفة ُ الصَّادقة الجيَّاشة المشبوبة المضطرمة ُ الملوَّعَة والعالمُ
الخيالي الرُّومانسي عنده . ويبرزُ بوضوح ٍ التوَجُّهُ واللجوءُ إلى عالم الطبيعة والشفافيَّة والبراءة والإبتعاد عن العالم
المادي الترابي المُجرَّد - عالم
المادَّة والرُّوتين القاتل مثله مثل معظم الشُّعراء
الرُّومانسيِّين ، فملحم خطيب ينتمي هنا إلى المدرسةِ الرومانسيَّةِ الغنائيَّةِ
الحديثة ، وفي بعض قصائدِهِ الأخرى ( المتحرِّرة من الوزن
أو التفعيليَّة) يستعملُ كثيرًا من الرُّموز والإيحاءاتِ المبهمةِ
والغامضةِ وهو قريبٌ
إلى السّرياليَّة نوعا ما . وفي الغزل
يقولُ .
( " في ثغركِ
المُفترِّ عن أسْمَى تعابير الحنينْ
تنسابُ من خلفِ
الشِّفاهِ وتنطفي عبرَ الجفونْ
" ) .
ويقولُ أيضًا :
( " فلئن هممتُ بكأس خمري
فلتكن خمري خلاصة َ حُبِّكِ المتوهِّج
//
صُبِّهِ كأسًا
من لماكِ الأغنج ِ
//
قبلاً على
شفتيكِ لا تتحرَّجي
//
إنِّي أعيشُ وفي
الشُّعور ِ قصائد //
ومنًى تلوحُ مع
الهوى المتأجِّج ِ // ... "
) .. إلخ
.
ولقد كتبَ ملحم وتوسَّعَ
كثيرًا في هذا المجال
ولا أريدُ الإطالة َ، كما
كتبَ ملحمٌ أيضًا في المواضيع
الوجدانيَّة والفلسفيَّة والتأمُّل ...يقولُ مثلاً :
( " يا إلهي أنتَ سرٌّ غامضٌ " ... إلخ .
ويقولُ أيضًا
:
( " أترى روحي إذا اطلقتها
في سديم ِ الغيبِ تدري
مَن أنا
وإذا مرَّت
بساحاتي نلتقي بالألى
عاشرتهم يوما هنا
ما وراءَ الأفق ِ من سرٍّ
خفي أعجزَ الناسَ ..مَضَوْا في ذي الدُّنى
هل أنا
من هذه الأرض ِالتي كلَّمنا
ضاقت بنا عادَت لنا ..)
.
يتحدَّثُ
هنا عن موضوع
( تقمُّص الأرواح ) الذي أعْيَا
وأعجزَ العلماءَ ورجال الدين والباحثين ولا
يوجدُ له
تنفسيرٌ علمي ناجع حتى الآن ،
ويؤمنُ بالتقمُّص الكثير من الديانات والشُّعوب والأمم، مثل : ( الموحدون الدروز ،
البوذيون ، الهوندوكس ، الفراعنة القدماء ، الإغريق والفلاسفة اليونانيون ، والهنود الحمر،
وشعراء المهجر) . ودائما
نلمسُ في شعر ملحم
مسحة َ الإيمان فيقولُ مثلاً :
( " كلُّ ما في الكون ِ من خلق ٍ إلى حيثُ
ألقت رحلها ريحُ
الفناءْ
كلُّها يفنى
ليبقى خالدًا وجهكَ
الهمَّ موفورَ البقاءْ ) .
وكتبَ ملحم أيضًا
القصائدَ الوطنيَّة والسياسيَّة ،
ففي إحدى قصائدِهِ من هذا الديوان يقولُ :
( " يا وطنا بدا
للمجدِ فوقَ مناكب الشُّهبِ
نقوشا زانها الأغرارُ بالأعمال ِ لا الخطبِ
وآياتٍ موشَّاةٍ بماءِ التبر
ِ والذهبِ "
) .
ويقول أيضًا : ( " فلم تأبه
بما حملتْ وما جرَّت مِنَ النّثوَبِ " )
.
وسأنتقلُ
إلى بابٍ آخر من هذا الديوان وهو باب
الهجاء، فيهجو ملحم أحدَ خصومِهِ من غريبي الأطوار وقبيحي الوجه والمنظر والجوهر( كما يبدو )
في قصيدتين رائعتين ،
ويذكِّرنا هنا بالشَّاعر العربي الكبير أبي الطيِّب
المتنبِّي في هجائهِ لكافور
الإخشيدي ، ولكن صاحب ملحم الذي
يهجوه هنا هو شخص نكرة ومن سقطِ المتاع
والأوباش واللمم ولا يوجد
لهُ أيُّ رصيد أو
وزن ثقافي أو أدبي
أو إجتماعي ... إلخ .
فملحمٌ في هجائهِ لهُ يُشهرُهُ
ويعطيهِ اهتماما كبيرًا وكان
الأحرى به ألاَّ يُشغل نفسَهُ وموهبتهُ الرَّائعة وفنَّهُ في مسخ ٍ معتوهٍ أبلهٍ وعميل ٍ كهذا الذي نحنُ في
صددهِ ، بل عليهِ أن يركِّزَ موهبته الفذة
وطاقاته الشِّعريَّة والأدبيَّة
والفكريَّة العظيمة التي وهبهُ إيَّاها الخالقُ في مواضيع أسمى وأرقى وأفضلَ
من هذه
التي يولِجُهَا . ولكن مهما
يكن ومهما كان مستوى ذلك الشَّخص المهجو من
السُّقوطِ والإنحطاطِ المعنوي والأخلاقي فالقصيدتان اللتان
نحن في صددِهما هما في قمَّةِ الإبداع والرَّوعة البلاغيَّة
والبيانيَّة والفنيَّة ، ولا تقلان شأنا
ومستوًى عن شعر أبي الطيِّب المتنبِّي العملاق وسابق عصره وزمانهِ
في هجائِه لكافور الإخشيدي العبد
الأسود وغيرهِ من المخصيِّين جسديًّا
وأخلاقيًّا ومبدئيًّا وآيديلوجيًّا
. ( كان
كافور عبدًا أسودًا مخصيًّا واستولى بالحيلةِ والخيانةِ
والغدر على مُلكِ
مصر بعد موتِ
سيِّدِ ووليِّ نعمتِهِ " الإخشيد " ملك مصر،
فاغتصبَ الملكَ اغتصابا من ابن
الإخشيد وصارَ حاكما ونامت
نواطير مصر عنهُ وعن أمثالِهِ من الثعالب والكلاب والأذناب) . كما
عندنا هنا في الداخل قد
وصلَ هذا الشخصُ المسخ ُ وغريبُ
الأطوار (الذي يهجوهُ ملحم) وغيرُهُ من القرودِ المسوخ إلى مراكز
ومواقع ووظائف هم لا
يستحقونها ، وذلك بفضل الإعلام المأجور الأصفر والجهات والأطر والمؤسساتِ المشبوهةِ والمأجورةِ والسلطويةِ
الغاشمة التي تعملُ لأجل ِ هذا الهدف وهذه السياسة :( إشهار وإبراز كل عمل أدبي وثقافي رديىء
وتافه وإشهار أصحابه العملاء والأذناب والمسوخ والخائنين الذين يعملون ضدَّ
قضايا شعبهم الفلسطيني وأمتهم
العربية وتركيز الأضواء عليهم
إعلاميًّا ) ...وبالمقابل التشويش والتخريب والتعتيم على كلِّ عمل أدبي وثقاقي وفني
إبداعي على مستوى
عال يخدمُ القضيَّة َالفلسطينيَّة َ والشعبَ الفلسطيني في الداخل والخارج والأمَّة العربية
ككلّ والتعتيم على أصحاب هذه الأعمال الرائدة .
وقد نامت أعينُ النواطير والقيِّمين والأمناء والأوفياء والغيورين
على الأدب والشِّعر وأسياده الحقيقيِّين
لإنشغالهم بأمور أخرى . يقولُ
ملحم في إحدى قصائدِهِ (على
بحرالوافر) :
( " أخصُّكَ أنتَ قردٌ
جئتَ غيًّا ومهزلة َ
المهازل ِ مَن أخُصُّ
تخونُ بملحم ٍ
وتقولُ شطًّا وفي
الظلماتِ كالأفعَى تبصُّ
عرفتَ بأنَّني
شهمٌ كريمٌ فكيفَ
يُدنِّسُ الأشرافَ
لصُّ
وَرُخصُكَ واضحٌ
للناس ِ عذرًا وكلُّكَ فوقَ معنى الرُّخص ِ رُخصُ
وَأنتَ وَمَنْ
أضلَّكَ لستَ إلاَّ
بكلِّ رذيلةٍ نتنَتْ
تغُصُّ ).
يقصدُ ملحم
هنا الأشخاصَ المغرضين
الحاقدين الذين يقفون مع
هذا الدَّعيِّ الأبلهِ
وَيُحرِّضونهُ ضدَّ ملحم . وتتجلَّى
وتشمخُ مقدرة ُ ملحم الشّعريَّة عندما
يقولُ :
( أرصُّ الحرفَ تلوَ الحرفِ رصًّا
تراهَا وحدَهَا نورًا
يُرَصُّ
قوافٍ كلَّما
أرسلتَ فيها يراعي
من حَشَا قلب
تُمَصُّ
فملحمٌ صخرة ٌ
في هام ِ طودٍ
ولا يُدمِي الصُّخورَ
الشُّمَّ جبصُ) .
وفي قصيدتِهِ الثانيِّة يقول :
( " لو كنتُ أعلمُ أنَّ
مثلكَ كاتبٌ لطرحتُ
أوزانَ القريض ِ بعيدَا
حتَّى عرفتُكَ شَيْصَبَانا ً
أرْعَنا ً مُتعَنِّتا ً في
الموبقاتِ نكودَا
وَحُثالة ُ الأوغادِ
مهما أوغلوا يبقونَ
في ساح ِ الكرام ِ
عبيدَا
وَأخُو الخيانةِ
لا يُغيِّرُ طبعَهُ
لو ألبسُوهُ مِنَ
الثيابِ برودَا ) .
ولننتقل بسرعةٍ
إلى آخر قصيدةٍ في الديوان بعنوان : (مهلاً هذا جنون العطش ) مهداة
إلى الكاتب السوري
الكبير " محمد الماغوط "
وهي قصيدة نثريَّة عميقة في معانيها
وأبعادها الفكريَّة ، ولا تخلو من النفحاتِ الصُّوفيَّةِ والفلسفيَّةِ
والنبرةِ الخطابيَّة .
ويذكِّرنا في هذه القصيدةِ
بأسلوب كبار الشعراء العرب
وروَّاد التجديد في العصر
الحديث ، مثل : البياتي ونازك الملائكة والسيَّاب
وغيرهم ، وبالشعراء الغربيِّين الكبار ،
من ناحيةِ المستوى والعمق والخيال والأسلوب . وهذه
القصيدة ُ تشملُ وتحوي
مواضيعَ كثيرة في
داخلها فهي ترتكزُ على عنصر الإيمان ، وفي نفس
الوقت وطنيَّة ووجدانيَّة
وإنسانيَّة بكلِّ معنى الكلمة
.
- وأخيرًا: مهما كتبنا عن هذا الشَّاعرالقدير
والمبدع ( ملحم خطيب) لا نعطيه
حقَّهُ وما يستحقُّهُ ، فهو
يُعتبرُ بحقٍّ وحقيقةٍ من
الشُّعراءِ الأوائل المبدعين المُميَّزبن
فنِّيًّا في هذهِ
البلاد ( داخل الخط الأخضر )
- يكتبُ الشِّعرَ منذ أكثر
من 35 سنة ... ويحتاجُ كتابهُ
هذا الذي بين أيدينا إلى وَقفاتٍ
ودراساتٍ أخرى أطول
وأشمل من هذه
المقالة .
أتمنَّى لشاعرنا وصديقنا
ملحم خطيب العمرَ المديدَ والتوفيق
والتقدُّم والتَّألُّق في عالم الكتابة ، وأن يتحفنا دائما
بإصداراتٍ وإبداعاتٍ جديدة
.