قصة
قصيرة
جَدَّته وجَدَّته!
بقلم: ميسون أسدي
لم يحضر مارون إلى المقهى الذي يجلس فيه مع صديقه هشام
منذ ثلاثة أيام، ولم يسأل هشام عن ذلك، لأنه كان يعرف السبب، فقد ماتت جدّته وذهب
مارون إلى القرية ليقوم بالواجب العائلي.. الأمر الذي استغربه هشام، فمارون لم
يشارك في مثل هذه المناسبات حتى لو كان المتوفي من أقرب المقربين.
عندما حضر مارون في اليوم الرابع إلى المقهى، استقبله
هشام بحفاوة، وعلى الفور، سأله: لماذا جدّتك بالذات هي التي ميزتها عن الجميع؟
مارون: أطلب لي شيء أشربه ، واستمع لما سأقوله لك...
***
-
كان جدي- والد أبي- يعمل في حقله، عندما توفي، وكان في
السنة الأولى من الثلاثين، فترك جدتي "ألمازة" وهي ابنة العشرون عامًا،
وحيدة لتربي ابنتيها وابنها حنا، الذي هو والدي.
اعتاشت جدتي من بيع الحطب. كانت تصعد إلى الجبل لجمع
الحطب، وتعود إلى قريتنا حاملة رزمة حطب كبيرة لتبيعها. كان الحطب هو مصدر الطاقة
الرئيسي في القرية. يشعلونه للطبخ والخبز وللتدفئة في أيام الشتاء الباردة.
في أحد الأيام، حملت جدتي حزمة حطبها على ظهرها، وأرادت
أن تقطع النهر الذي يجري في الوادي ويفصل قريتنا عن الجبل. زلّت رجلها وسقطت في
النهر، وكان عليها أن تتخلى عن حزمة الحطب حتى تنجو بنفسها، لكنها تمسّكت بالحزمة-
مصدر عيشها وعيش أولادها- إلى أن حالفها الحظ، وعلقت الحزمة في صخرة كبيرة، فنجت
جدتي، وعادت إلى القرية مرفوعة الرأس، رافعة حزمتها المبلولة بالماء.
تتجلى سعادة جدتي عندما تسمع الجيران من حولها يدعون لها
بالخير وطول البقاء وتفرح بزواج ابنها حنّا، لذلك كانت تجلس أمام بيتها خصيصًا،
بحجّة أنها تريد أن تشرب القهوة بالهواء الطلق تحت أشعة الشمس، ليمر بها أهل البلد
ويحيوها ويدعون لها بالخير وبفرحة ابنها حنّا.
تستحم جدّتي في أيام الآحاد. تدهن شعرها بالزيت المطيب
بالعطر. تمشطه جيّدًا. تجدّل ضفيرتها الطويلة بشكل جميل وساحر. تلبس أبهى ما عندها
من ملابس في الخزانة. تذهب للصلاة في الكنيسة، كأنها ذاهبة لحضور حفلة عرس. بعد
عودتها من الصلاة، تزور الأقارب ولا تقوم بأي عمل، فهذا اليوم تخصصه للصلاة والزيارة
والراحة.. وفي الأعياد، كانت تقوم بالمعايدة على أبي وتعطيه هدية مالية وكذلك لي
ولأخوتي، وتستثني أمي من هذه البركة.
رغم أن جدّتي المازة
كانت أميّة، إلا أنها كانت تجلس بشكل مستقيم على سريرها المصنوع من الحديد، وكأنها
تواجه المعلم في المدرسة، تتلي بصوت منخفض صلاة "أبانا" و"السلام
عليك يا مريم"، وتستنجد بالعذراء، ثم تدور بأصابعها على مسبحتها دورة كاملة.
اعتقدت في صغري، بأن
جدّتي هي أكثر الجدّات مهارة في الطبخ. أحببت طعامها أكثر من طعام أمي الذي هو مجرّد
تقليد فاشل لما تفعله جدتي. بيتها كان قريب جدًا من بيتنا، وعندما نال العمر منها
مأربًا، طلب أبي منّا نحن الأخوة أن نتناوب في المبيت عندها، حتى لا تصاب بمكروه وهي وحدها.. وبيتها كالمسجد، لا
تسمح لأحد بدخوله دون أن يخلع حذائه. انتظرت بفارغ الصبر أن يأتي دوري للمبيت
عندها، لأحظى بأطايب أكلها اللذيذ وفراشها الدافئ. لم أشعر مرّة، بأنها بحاجة لمن
يكون بجانبها ليساعدها بشيء ما.. ورددت على مسامعي "يموت الزمار وإصبعه يلعب"،
حتى قبل أن تموت، مرضت ليومين فقط،
ثم فارقت الحياة بطريقة بسيطة كما عهدناها. لم تنوح وتجوح، ولم تطلب المساعدة من
أحد.. أغمضت عينيها سعيدةَ بهذا الدفء الذي انتظرته.
***
عندما أنهى مارون
قصّته، كان قد أفرغ مع صديقه هشام
ثلاثة زجاجات من الجعة.. الغريب في الأمر، أن هشام لم ينبس بكلمة واحدة أثناء حديث
صديقه العزيز مارون، وهو الذي اعتاد الثرثرة والتعليق على كل كلمة، كان يستمع
لصديقه ويسرح بخياله لمكان بعيد.
قال مارون لهشام بسخرية: لا تقل لي أنك تأثرت بموت جدتي!!
أجابه هشام بنوع من الجدية، هيا نطلب زجاجتين من الجعة وسأحدثك
بما كنت أفكر...
***
-
لم أصدق ما روته لي جدتي عائشة، بأن القيمة المادية
لنعّارة العسل كانت تساوي ثمن دونم أرض، وحتى أجعل الكلام أكثر منطقيًا، قلت في
نفسي بأن جدتي ربما كانت تقصد أكثر من نعارة واحدة، والنعارة هي أشبه بالجرة
الكبيرة نوعًا ما، تضع فيها جدتي العسل الصافي الطبيعي والخالي من السكر، وكان
العسل وما زال المأكول اللذيذ والأكثر صحي من بين المأكولات، والغالي الثمن نسبيًا.
جدتي عائشة وهي والدة ابي، توفى زوجها- جدي بعد أن ترك
لها خمسة بنات وابن وحيد. سهرت على رعاية ابناءها. كانت امرأة عصامية ومستقلة.
تكدح ليلًا نهارًا تفوق الرجال قوّة. ربّت النحل في عشرات المناحل في كرمها. عملت
بهدوء وكد وجهد دون ضوضاء. تبدّل العسل بالأرض- على حسب ما تدّعي- لم يكن للأرض
حينها قيمة كبيرة. وروت لنا جدتي، بأنه في زمن الأتراك، كانوا إذا أرادوا معاقبة
شخص ما، يسجّلون على أسمه قطعة أرض، حتى يجبون منه ضرائبها لاحقًا. تهرّب الكثير
من ملكية الأرض، مما بخّس ثمن الأرض.
فيما بعد، عندما أراد خالي ابنها وحيدها الزواج واصرّ
على ذلك. لم تكن تملك جدتي المال لتزويجه. ذهبت إلى احد الاقطاعين وهو صاحب نفوذ
في القرية، طلبت منه أن يقرضها المال، على أن ترّد له الديّن بعد موسم قطف الزيتون.
وافق الاقطاعي-
العكروت- على ذلك، شرط أن يسجّل
ما تقوله وأن يكون هناك شهود على هذه الاتفاقية. احضر الاقطاعي ثلاثة شهود، وورد
في الاتفاقية أن يكون أحد كروم الزيتون الذي تملكه جدتي، رهنًا للدين، وبحالة عدم
تسديدها، تنتقل ملكية الكرم لذلك الاقطاعي.
اقترب موسم الزيتون وكانت كروم جدتي حاملة بالزيتون
الأخضر الذي ينقط منه الزيت لشدّة حمله. وصل مسمع جدتي الخبر وهي في بيتها: هناك
من قام بقطع جميع اشجار الزيتون المثمرة. حزنت جدتي بشدّة ولم تدر ماذا تفعل، ولم
تهبط عزيمتها، لأنها كانت تؤمن بأن الرب موجود لجانبها وسيساعدها.
لم تمض عدّة أيام على قطع أشجارها، وإذا بمناد آخر يطرق
بابها ليخبرها بأن أحدهم قام ببقر جميع بقراتها الحوامل وقد اجهضت جميعها وقُتل
قسما من بقرها.
خرجت جدتي من
بيتها تصرخ بأعلى صوتها، تخبط على رأسها وتنفش شعرها وهي تولول: ضاع الكرم.. ضاع
الكرم..
علمت جدتي عائشة فيما بعد، أن من قام بتقطيع شجرها وبقر
بقراتها، كان من شهد على اتفاقية حصولها على المال من الاقطاعي، لكنها لم تملك
الاثبات أو الدليل على ذلك، فقد كان هناك مؤامرة على نهب كرمها.
***
-
بصحّة جدّتك بائعة الحطب..
-
بصحّة جدّتك بائعة العسل..