ــــــــــــــــــــــــــ
أسرتني أخبار نضال السود (الأميركيين من أصول أفريقية) مذ كنت صبياً، فتابعت تفاعلاتها، ثم وعيت بالدور المهم الذي اضطلع به الزعيم الراحل “مارتن لوثر كينغ” في الذود عن حقوق الزنج المدنية وعن مستقبلهم، حتى كلفه هذا الدور حياته يوم أطلقت النار عليه وهو يشم النسيم من على شرفة غرفته، فأردته قتيلاً. وهكذا قفز “صاحب الزنج” الأميركي الى مصاف الأبطال الأميركيين، سوية مع رؤساء الولايات المتحدة التاريخيين. وصارت ذكراه عطلة رسمية.
لقد سحبني “تيار الوعي” الى هذه الذكريات الشخصية وأنا أتابع أحداث مدينة “بالتيمور” Baltimore التي تستعر هذه الأيام على نحو “ثورة سوداء” جديدة، قد تخدم لتحسين أوضاع الأميركان الأفارقة وتضيف الى قائمة ابطال أميركا إسماً اسود آخر، سوى إسم كينج. وإذا كنت قد رصدت للـ (الوطن) الغراء “ثورة زنج في مدينة فيرجسون” قبل بضعة اشهر، فإن لي أن أزعم بتبلور ثمة نمط تمردي متكرر ينطوي على حركة سوداء قوية، حركة كانت قد راكمت معاناة السود الكامنة منذ ظفرهم بحقوقهم الإنسانية الأساس بمساعدة “صاحب الزنج” الأميركي، “مارتن لوثر كينج” المذكور في أعلاه، حتى اليوم، إذ تشعر قطاعات واسعة منهم بالتمييز على اساس لون البشرة، ولكن على نحو مستتر، لأن التمييز الصريح يقود الى المحاكم ومن ثم الى السجون.
بيد أن هذا الخوف من القضاء لا ينفي حقيقة مفادها أن السود يضمرون اسباب التمرد في دواخلهم وهي تعتمل على نحو متواصل في انتظار لحظة التفجر، كما حدث في مدينة بالتيمور قبل بضعة ايام، حيث لقي شاب اسود حتفه على ايدي ثلاثة من رجال الشرطة كانوا قد تسببوا بكسر عموده الفقري: وللمرء أن يتخيل كيف عاملوه لحظة إلقاء القبض عليه درجة كسر ظهره حتى الموت.
التقيت بعدد لا بأس به من السود الأميركان من الذين لم يتركوني أغادرهم دون تحميلي “رسائل احتجاج” اجتماعي وإنساني، رسائل تدل جميعها على أنهم غير سعداء بوضعهم في الولايات المتحدة لأنهم لا يشعرون بالتساوي الحقيقي مع مواطنيهم “الشقر الطوال” من ذوي الأصول الجرمانية، الهولندية أو الإيرلندية.
وإذا كانت أحداث التمرد المدني السابقة في مدينة “فيرجسون” قد اتقدت من سبب مشابه لهذا الذي تتعامل السلطات الأميركية مع نتائجه في مدينة بالتيمور الآن، فإن النمط السلوكي المستوحى من كلا التمردين، يتلخص في اتخاذ القيادات السوداء من تعامل الشرطة القاسي والعنيف مع الشبان السود ذريعة أساس للإعلان عن الإحتجاج الإجتماعي الأسود، ذلك الإحتجاج الذي تتم ترجمته على نحو مؤثر ومثير عبر حرق سيارات الشرطة لإضعاف قبضتها، ومن ثم مهاجمة الممتلكات ونهبها وإشعال النيران في دواخلها قبل اللوذ بالفرار. كرّ و فر.
وإذا كانت سلطات مدينة “بالتيمور” تراهن على ضخ المزيد من قوات الأمن الداخلي لكبح جموح التمرد، فان السود لا يميطون اللثام عن اسم قائدهم الجديد، اي “صاحب الزنج” القادم الذي حل محل “كينج” في أميركا، ومحل “علي بن محمد بن أحمد”، في العراق، عندما استعرت ثورة الزنج (869-883م) على سنوات العصر العباسي، فهزت أركان تلك الدولة.
وبغض النظر عن حقيقة أن النظام الأميركي قد سمح لرجل أسود أن يكون رئيساً، لأول مرة بتاريخ الولايات المتحدة، يشعر المراقب أن تمردي “فيرجسون” و “بالتيمور” إنما تستبق المزيد من تعابير الإحتجاج الإجتماعي الأسود، ذلك الإحتجاج الذي ربما يمهد الطريق للمزيد من الإحتجاجات السوداء والبيضاء، بل وحتى الحمراء، باعتبار ما يعانيه الهنود الحمر، سكان أميركا الأصليون، هناك من إشكالات مع السلطات الشقراء.