حكم تخصصي الدقيق بأدبيات الاستشراق (دكتوراه، وما بعد الدكتوراه)، بقيت لمدة طويلة حبيسًا لفكرة مسبقة مفادها أن الأدبيات أعلاه هي المسؤولة الأولى عن تشويه صورة العرب والمسلمين في الثقافة الغربية الشائعة، أصولها وتفاصيلها المعاصرة. لذا، فقد ركزت في بحثي عن صورة العربي والمسلم، كما هي موجودة اليوم في قعر العقل الغربي، على هذه الأدبيات القديمة باحثًا عن أهم الإعلانات وقانصًا أهم تعبيراتها اللفظية، وسوى اللفظية، كي أقدمها لأولي الأمر وللجمهور العربي والمسلم قرائن على الضغائن والعداء المتراكم عبر العصور بين أبناء ثقافتين متباينتين، تبدوان متنافرتين للوهلة الأولى. بيد أن الخلاصات أعلاه قد تعرضت لرجة عنيفة بعد مكوثي في الولايات المتحدة الأميركية لأعوام عدة بسبب ما اكتشفته من مسببات إضافية للصورة المشوهة التي يختزنها العقل الغربي، الأميركي خاصة، عن العرب والمسلمين وقد كان تراث المهاجرين القادمين من البلدان العربية والمسلمة من أهم العوامل الراجة لتيقناتي السابقة، ليس بسبب تعمد غالبية واضحة منهم الإساءة لصورتنا في الثقافة الغربية والأميركية الشائعة.
وأزعم هنا أن مرد هذه الإساءات، كما رصدتها وكما أفترض متابعتها، هو أن الهجرة إلى مهاد ثقافي اجتماعي غربي جديد تؤدي إلى فقدان البعض من المهاجرين توازنهم الأخلاقي والنفسي والتربوي، لأن الانسلاخ عن المهاد الأصل بدا لهم، خطًّا، وكأنه يوجب الانسلاخ عن ثقافتهم وجذورهم الروحية والاجتماعية، الأمر الذي حدا بهم، ليس إلى الاعتداد والتفاخر بقيمنا الأصل والتمسك بها، ولكن إلى تعمد نكرانها ثم تسفيهها ورفضها والتمرد عليها لحظة أن تطأ أقدامهم مطارات المدن الغربية. هم يبرهنون على عدم توازنهم النفسي أو على اختلاله المفاجئ بتعمد مراجعة دوائر الهجرة والتسجيل المدني لغرض استبدال أسمائهم العربية الأصل بأخرى أجنبية: وهكذا يستحيل “كمال” إلى “كيني” و”حداد” إلى “سميث”، “زهراء” إلى “روز” و”فاطمة” إلى “ماري”، وهلم جرا.
هذه العملية بحد ذاتها لا تنطوي على عكس صورة لإنسان فاقد الجذور فقط، إنسان مستعد لفعل كل شيء، حتى وإن تناهى إلى “الخيانة” الأخلاقية والاعتبارية، من أجل الاندماج المتعامي بالبيئة الاجتماعية الحاضنة الجديدة.
رصدت هذه الحال المأساوية والمسيئة قبل بضعة أيام على نحو صارخ، عندما استضافني أحد هؤلاء المنقطعي الجذور، أو قاطعيها، وهو في حضور عدد من المبشرين القادمين من إحدى الكنائس المسيحية التبشيرية. لقد راح صاحبنا يصب جام غضبه على مجتمعه الأصل، العربي الإسلامي، بطريقة لا تنم عن أدنى احترام للنفس وللانحدار الثقافي والبيئي. هو لا يكتفي بالإساءات “التقليدية” التي يتبناها الاستشراق والإعلام الغربي فقط، لأنه يحاول أن “يبتكر” و”يبتدع” أكاذيب إضافية لتكريس صورتنا المشوهة وتكريسها في قعر العقل الغربي. وهو يعتقد بذلك أن هذا هو جواز سفر انتمائه للمجتمع الجديد، للأسف.
وعلى الرغم من ردي عليه بصوت عال، متهمًا إياه (أمام أصحابه المبشرين) بعدم الصدق، فإني عدت إلى سكني تلك الليلة بخلاصة مطلقة، تفيد أن أعداء ثقافتنا هم أفراد منا وإلينا، لبالغ الأسف! هذا النوع من الجهلة، فاقدي الضمائر، هو ذات النوع الذي يسألك عندما يقابلك هناك: “هل تتكلم لندن”؟ هو اندماجي حد إذابة الهوية وقصر لون البشرة، على عكس الهنود والصينيين واليابانيين، من بين سواهم، أي هؤلاء الذين لا يقطعون أواصر التواصل مع بلدانهم الأصل، ويعبرون عن احترامهم لأنفسهم بالاعتزاز بقيم بلدانهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق