أ.د. محمد الدعمي
”.. المرء يجد نفسه في موقع دوني عندما يراجع تاريخ الثقافة العربية الإسلامية الحديث، فهو لا بد أن يرفع رأسه وناظريه إلى الأعلى (درجة تشنج رقبته) كي يعاين إنجازات هؤلاء، موضوعين سوية في طبقة ثقافية عليا؛ كما أنه لا بد أن يطأطئ رأسه حد ما بين قدميه لمباشرة “الفراغ الثقافي” الذي تطفو عليه شعوبنا العربية والإسلامية اليوم.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنه لمن نافلة القول إن رجالاً من أمثال المرحومين، الدكتور طه حسين (مصر) والدكتور علي الوردي (العراق)، من بين آخرين، قد نجحوا في هز الوعي العربي، خاصة في حدود الدول التي أنجبتهم (مصر والعراق)، إلا أن للمرء أن يفترض أنهما لم يتمكنا من إطلاق نهضة ثقافية ترقى إلى تلك التي أطلقها رجال سبقوهم في تسجيل “النهضة العربية” الحديثة بأسمائهم، وهم: (1) رفاعة الطهطاوي و(2) جمال الدين الأفغاني و(3) محمد عبده و(4) خير الدين التونسي. والحق فإن “تجيير” النهضة الثقافية العربية في العصر الحديث بأسماء الأساطين أعلاه لا يخلو من المبالغة كذلك، ذلك أني سبق أن لاحظت عدداً من إخفاقاتهم الفكرية، محدداً عدم التمييز بين “القومي” و”الإسلامي” نموذجاً لهذا الإخفاق.
ولكن المرء يجد نفسه في موقع دوني عندما يراجع تاريخ الثقافة العربية الإسلامية الحديث، فهو لا بد أن يرفع رأسه وناظريه إلى الأعلى (درجة تشنج رقبته) كي يعاين إنجازات هؤلاء، موضوعين سوية في طبقة ثقافية عليا؛ كما أنه لابد أن يطأطئ رأسه حد ما بين قدميه لمباشرة “الفراغ الثقافي” الذي تطفو عليه شعوبنا العربية والإسلامية اليوم. لا يريد المرء توصيف هذا الخلاء المخيف من خلال استلال نماذج ثقافية معينة أو من خلال الارتجاع إلى أسماء وأعمال بعينها بهدف الإدانة وتبادل التهم: فالمسؤولية تفرض على المرء تشخيص أعراض الداء، كبداية صحيحة لعلاجه، على أقل تقدير.
لذا لا يخطئ المراقب حينما يعد هيمنة الضغائن الطائفية والدينية والفئوية على أجواء الثقافة الشائعة من أوضح الأعراض التي تعكس داءً داخليًّا قد يحتاج لمداخلة جراحية في سبيل استئصاله. زد على ذلك، للمرء ملاحظة أعراض ثقافة هابطة (للأسف) عبر الثقافة الشائعة التي لا تكتفي وسائل التواصل الاجتماعي بعكس مديات تدهورها فقط، بل يسهم الإعلام العربي الشائع في تجسيدها بل وتشجيعها على نحو لا يمكن أن يمر دون ملاحظة.
التدهور هو حال “نزول”، على عكس حال “الصعود”، وهما الحالتان اللتان تحياهما أغلب ثقافات العالم الآن، ومنها ثقافتنا التي تحيا حال نزول واضحة نحو غياهب الجهل والتجهيل وطلاق الاستنارة ثلاثاً، للأسف.
لم يعد هجر العربية الفصحى حالاً معيبة فقط، بل إن التشبث بالعاميات والدارجات صار من دواعي الفخر والتقدير، ناهيك عما تؤذن به هذه اللهجات، العاكسة للتشرذم، من تمرير لأنواع الإساءات والإسقاطات الأخلاقية والسلوكية، زد على ذلك استمراء الدونيات بديلاً عن التشبث بالساميات.
حتى الرومانسيات التي التصقت بالعقل العربي وبالتراث العربي والشرقي عامة منذ اقدم العصور، راحت تتلاشى منها جميعاً اليوم، بدليل خضوع العقل العربي لقانون العرض والطلب ولمعطيات التداول في السوق، كما نلاحظ هذه الظاهرة بوضوح عبر آنية الإعلام حيث يجسد الإعلام الدعائي الهابط مديات استهانة العقل العربي بنفسه ودفعه ذاته إلى المهاوي حد الانتحار الذي لا ترتجى منه نهضة مستقبلية قط.
إن أصحاب الأقلام في مصر وسوريا، عمان والعراق، المغرب وتونس، من بين الدول العربية الأخرى، بحاجة الى انتفاضة ثقافية تقدم “رجة وعي” حقة للعقل العربي، عله يستفيق من رماد الهزائم ومن رقاد هذا العصر الذي تمخره بواخر الطائفية وتنخره جراثيم الرجوعية والأمية المقنعة.
فهيا بنا نطلق “رجة ثقافية” تتصدى أصواتها من بغداد إلى الرباط، ومن مسقط إلى الجزائر، ومن حلب إلى فاس ومكناس، وإلا فلا تعد “زاوية” الانحدار السريع إلا بالدوني وبالمخيف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق