في فلسفة التورخة
لا يمكن التفكير بالتاريخ بوصفه “مجرد سجل للحوادث الماضية” عبر المنصرم من الزمن؛ لأنه بهذا التعريف يظهر أشبه بــ”نشرة أخبار الماضي”. التورخة عمل فكري لا بُدَّ أن يعتمد مدخلًا فلسفيًّا ليتأسس عليه. وبعكسه يبدو التاريخ لمن يقرأه أشبه بـ”دليل هواتف” يعتمد تسلسل الحروف متناغمًا مع التسلسل الحولي!
لذا، عمد العباقرة إلى فلسفة التورخة على أساس من الغرض الاجتماعي والفكري والدلالات المستقبلية التي تتم التورخة بحسبها: فمن ناحية أولى، اعتمد “توماس كاريلال” Carlyle المدخل الفردي للتورخة، عادًّا التاريخ النتاج النهائي لأفعال “الأبطال”، كما لاحظ ذلك في كتابه الفذ (حول الأبطال وعبادة الأبطال والبطولي في التاريخ) On Heroes، مباشرًا قصص البطولة العظمى من “البطل إلهًا”، كما حدث لدى الأقوام الوثنية البدائية في أوروبا، ثم انتقل إلى التاريخ العربي الإسلامي ليكتب، فصلًا فذًّا عن “البطل نبيًّا: محمد، الإسلام”. وهكذا تبقى مباشرته التاريخ عبر سير الأبطال اعتمادًا على عدد من كبار “مشكلي” التاريخ بعد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، نزولًا إلى الملوك والقادة العسكريين والعلماء وكبار المبشرين ورجال الدين، مع إشارة خاصة للتواريخ الأوروبية، بطبيعة الحال!
أما المفكرون الأكثر يسارية واشتراكية من فلاسفة التاريخ فقد عدوا التورخة قصة علاقات العمل بين العقل المصمم والعقل المنفذ، وبذلك تمكنوا من دراسة العمارة تواريخ، مركِّزين على علاقات العمل ومدى دافعيتها للإبداع الجمالي، وليس على البلاط أو ميدان المعركة، ذلك أن العمارة إنما تؤشر الصفحات المشرقة من ماضي الأمم، بينما لا تعني الحروب وقصص الصراعات على السلطة سوى الدمار والتراجع الضار بالتقدم والذي يبتر الإبداع.
وبذلك أسس الفيلسوف البريطاني “جون رسكن” Ruskin للمدرسة الجمالية في التورخة متتبعًا تطور علاقات العمل وعلاقات الإنتاج فيما تعكسه الزخارف والأشكال المعمارية، ابتداءً من العمارة التي اعتمدت على “السخرة”، كما هي الحال في إقامة أهرامات مصر القديمة، إلى العمارة الائتلافية، حيث تأتلف العقول الفنانة المبدعة من أجل إقامة الصروح العظيمة التي توجها العصر الوسيط في بناء واحد هو “كاتدرائية القديسة صوفيا” Saint Sophia في اسطنبول، حيث التقت العبقرية “القوطية” الأوروبية بالإبداع الإسلامي في هذه النقطة المركزية بين أوروبا وآسيا: “القسطنطينية” Constantinople.
أما معماريونا في العالم العربي، فقد بقوا ضائعين في الشرخ: بين محاكاة العمارة الغربية (الأميركية، مثلًا)، وبين الإخلاص للتراث المعماري الإسلامي، العباسي والفاطمي، محاولين تلافي آثار الشرخ الموجعة بإضافة الأقواس والقباب الإسلامية على عمارة مسلفنة ومستوردة مسبقًا، عمارة تعتمد العمالة الآسيوية.