ميزر علي مهدي صالح الجبوري
الشخصية المحبطة :-
تعد الشخصية المحبطة من الشخصيات التي كان للواقع الاجتماعي الدور الأساس في ظهورها فعلماء الاجتماع يكاد يجمعون على ان الفرد والمجتمع ما هما إلا وجهين لحقيقة واحدة , ومن خلال هذا الواقع كان لكثير من الكتاب ان يخلقوا شخصياتهم وأبطالهم من هذا النمط , أما تسمية الشخصية المحبطة فلم يكن هذا المصطلح في قاموس الأدب (( فهذه الكلمة اشتقت من مصطلحات علم النفس وأدخلت في مصطلحات الأدب )).( ) فالإحباط (( هو ذلك الظرف الذي يمنع فيه على الشخص إشباع مطلبا نزوي ... وهو يشمل كل عقبة – خارجية أو داخلية – تحول دون الإشباع اللبيدي)) ( ) إذ إن من خلال هذا التعريف نستدل على أن الإحباط هو خيبة أمل يعيشها الشخص وتنعكس على حالته النفسية فهو (( يعني فشل الفرد في إشباع حاجاته أو يعني قيام موانع أو معوقات حالت بين الفرد وبين اشباع
حاجاته )). ( ) والشخصية المحبطة شخصية غير قادرة على التكيف والتفاعل مع الواقع الذي تعيشه أو تنطوي تحته (( وان ابرز ما يميز هذه الشخصية نظرتها المثالية للأمور , ولعل مثاليتها تلك هي السبب فيما تواجهه من متاعب واحباطات)) ( ) , ولذلك يمتاز الشخص المحبط بـ (( الهزيمة المستقرة في أعماقه , فهو شخص
متشائم , ولا مبال وذو نزعة سوداوية , وهو يغلق كل النوافذ التي قد تنفتح أمامه , إنه يائس ومنعزل تماماً عن حركة المجتمع من حوله ... وغالباً ما يتخذ موقفاً سلبياً من الناس , وربما اتخذ موقفاً عدائياً هداماً من المجتمع الذي ينتمي اليه , فهم المجتمع فهماً خاصاً واقتنع بهذا الفهم وانطلق منه معمماً ومستنتجاً استنتاجات خاصة أيضاً : لقد خلقنا من أزمته إنساناً مشوهاً من الداخل وعجز عن تجاوز هذه الأزمة , أو إيجاد حل مناسب لها , ان القلق والسوداوية وعدم الاستقرار وانعدام التوازن من سمات حياته المضطربة )) ( ) والإحباط أحياناً يكون قوة دافعة للشخص على إزالة العوائق , غير أنه من الممكن أيضاً للإحباط ان يقود إلى اتخاذ وضعية دفاعية تشوه الواقع ولا نرى الأسباب الحقيقية الكامنة خلف الفشل في تحقيق الهدف, وكذلك قد يعقب الإحباط حصول عدوان أو التفكير في الانتحار ولكن العدوان والانتحار ليس العاقبة الحتمية للإحباط . وهذا كلهُ (( دلالة على يقينيته بفشله وعجزه , ودليل على سوداويته ورؤيته اليائسة للمستقبل )). ( ) والشخص المحبط ذا ضمير حي , ولذلك فهو يعيش مرارة المعاناة وقلق التوتر فأنه يرى نفسه بطلاً في غير زمانه ويراه الاخرون مشكلة وشخصاً غامضاً . ( ) فالشخص المحبط يحاول ان يلجأ إلى الهروب لكن هذا لا يزيده إلا عزلة مما يدفعه إلى الحزن والكآبة وحتى الجنون فنراه قلقاً حاد المزاج .
ومن الشخصيات المحبطة في قصص سناء شعلان ما وجدناه في قصة (الخصي) وهي الشخصية المحورية التي تدور حولها أحداث القصة , فعند مطالعتنا للعنوان نرى ان الشخصية فاقدة لشيء ما , بل انها تعاني من عاهةِ جعلت من الشخصية صفة ملازمة لها وهي الخروج عن الفحولة ( ) , وربما أرادت الكاتبة ان تقدم هذا العنوان لكي تلفت انتباه القارئ , لأن الكثير من العناوين يكون لها وقع في اجتذاب القراء وتشويقهم أو ربما أرادت ان تكشف عن بعض أسرار القصة من خلال العنوان فكلمة ( خصي ) تعني الشخص الذي فقد القدرة على إثبات رجولته .
بدت الشخصية واضحة منذ بدء القصة محملة بالإحباط والقلق والتردد إذ إنه كان حارساً لقصر الملك الذي كان مليئاً بالنساء الجميلات فهذا التحدي جعله حزيناً لأنه لم يهنأ بما يجب أن يملكه , وكلما جاءت جارية إلى قصر الملك ازداد حزناً وألماً حتى إننا نجده يعترف في هذا ملتجئا فيها إلى الحوار الداخلي في لحظات الضعف الذي تنتابه , حتى أن هذا الإحباط قد ساقه إلى حبل المشنقة بسبب خيانته للسلطان لأنه قام بمساعدة الجارية على الهروب من القصر لأنه يعلم أن مصيرهُ الهلاك حتى وان بقي على قيد الحياة , فهو ميت لما يحمله من ألم وآهات , فهو يرى نفسه فاشلاً وغير قادر على مجارات الحياة , بل أنه غير قادر على أن يعيش ليهنأ آخر اسمه السلطان برجولته لذا فقد حرم ذاته مما أدى إلى انسحاقه وانكساره (( يرى في جسد الجميلات تحدياً له , أمام كل محظية أو جارية أو شريفة من شريفات القصر , يرى دم رجولته مسفوكاً دون رحمة يرى في تكليفه بحراسة نساء القصر وحمايتهن استفزازاً لكرامته ... ينتبذ ركناً قصياً حيث لا يراه الحرس الرجال الذي يفوقهم قوة ونخوة وشهامة ليبكي حتى الإزهاق...في الليلة المشهودة التي أرادها السلطان مع جاريته , كان قد دبر أمر فرارها ...ثارت ثائرة السلطان الذي يغضب بشدة ...أزبد , وأرعد , وتوعد الكل بالعذاب , وكان رأس الخصي قد عُلق على بوابة القصر انتقاماً من خيانته وتأديباً لغيره من الخصيان ))( ) , إن الخيانة التي قام بها الخصي جاءت وليدة لحظة الضعف وانعكاس أدى إلى خوضه في طريق اقتنع به حتى وان كان خاطئاً وهذا ما أرادت أحداث القصة ان تصوره لنا .
وفي قصة ( حذاء عنترة ) ثمة وَلد يتمنى ان يحصل على ابسط شيء في الحياة وهو ( الحذاء ) , ففقدانه لوالده وفقره باتا يدفعانه ولو مَرّة واحدة بأن يحقق أمنيته في عمره , لذلك نراه يعمل وبسرية في طاحونة ( العم عايش ) لكي يدخر القليل من النقود ليشتري الحذاء الذي كان يحلم به , لكن بحصوله على الحذاء فقد ساقه التي تعرضت إلى حادث (( اسمه عنترة وسعادته المؤجلة رغم انفهُ تتلخص في حذاء , يريده جلدياً , بنياً لامعاً ... يريده بنعلٍ ضخم اسود , يصكه بالأرض دون أن يخشى عليه من أن يتمزق , وقرر أن يحصل عنترة ولو لمرة واحدة في عمره على شيء يريده دون أن تثنيه أمه الأرملة الكبيرة عنه ...وانقطع يعمل في طاحونة العم عايش ينظف المكان ويعد أكياس الحبوب وينظم ادوار الطحين والاستلام ...وحقق عنترة المستحيل وحصل على حذائين جلديين بنيين بنعلين سميكين ... فرح عنترة بحذائيه الجديدين , وان فكر على مضض بان يعرضهما على عرفة ليشتريهما ولو بنصف ثمنهما , فما عاد في حاجة إليهما بعد أن انزلق في حفرة الساقية وقطعت إحدى قدميه وبقية الأخرى وحيدة مجذبة , لا تحلم بحذاء جلدي بني جديد))( ).
من خلال العنوان نلاحظ أن الكاتبة اختارت اسم عنترة , ذلك الشخص الذي كان يعاني من عبوديته ولونه الأسود وربما أرادت الكاتبة أن تختار هذا الاسم هنا لما له من رمزية وتوظفه في معنى العبودية والإفلاس بشكل متجدد , أو أرادت أن تستلهم من لونه الأسود دلالة الإحباط وتجليه انكسارات وهزائم في ذاته , لقد
بدأت القصة بالمأساة حتى انتهت منذ أن تبادرت الأحلام والأمنيات في الأسطر الأولى لذلك نرى أن البؤس والمعاناة قد طغيا وترسخا في مخيلة المتلقي لأن الحذاء كان بالنسبة لعنترة كل شيء , وبين هذين القطبين كانت تتلخص دنياه , فقد أهمل الطعام والشراب , فالدنيا الشاسعة باتت بالنسبة له معقودة بامتلاكه حذاء لأنه ليس من الغريب أن تتشوه متطلبات الطفولة وتتغير من حين إلى أخر .
هنا تقدم الكاتبة لوحة للبؤس والإحباط بأقسى صورة , فقد انتزعت الطفل بقسوة من عالم البراءة والفرح وقذفت به إلى عالم الكبار ليصارع الحياة بين أنياب فقر
لايرحم , فقصة حذاء عنترة وجدناها تترك أثراً واضحاً موجعاً يخلد بنفس كل من يقرأها لأن صورة الإحباط المزدوج التي ظهرت من خلال سرد القصة فقد أغرقت الكاتبة القصة بالإحباط وذلك عند حصول عنترة على الحذاء مع فقدانه ساقه مما ساق أحداث القصة إلى مفارقة وما عاد يرغب بان يحقق أحلامه وأمنياته .
ومن الشخصيات المحبطة الأخرى ما وجدناه في قصة مأتم الرصاص ( رسالة عاجلة ) حيث يطالعنا العنوان , وما يضمر تحت دلالته سوى الألم وهذه القصة تروي على لسان ( سالم ) وهو مرسل رسالة إلى صديقه الطبيب ( جورج ارثر) الذي كان يراهن على أن لا مستحيل في الطب معاتباً إياه على إن هذه المقولة ليست صحيحة , بعد ذلك ينتقل سالم لتقديم شخصية فيصل الطفل المعذب الذي أبصر النور بعين واحدة على الرغم من إن والديه قد عرضوه على اكبر الأطباء في سبيل إعادة نور عينه الأخرى لكن الأطباء عجزوا عن رد قبس النور المسلوب من عينه , بعد ذلك أصبح فيصل رساماً بعين واحدة , فقد كان فناناً مبدعاً ومدهشاً وملأ نفسه سعادة واسعد أبويه الحزينين لكنه فقد عينه الوحيدة التي كان يبصر بها , فأصبح أعمى حين أصابته رصاصة من مسدس أبيه في حفل زفاف أخيه حين كان يراقب العرس بعينه الوحيدة لكي يرسم هذه الأمسية في لوحة فنية ليهديها إلى أخيه العريس .( )
يبدو أن الكاتبة معنية بتقديم صورة للفتى ( فيصل ) فصورت لنا القصة على شكل لوحة فنية مليئة بالحزن والإحباط والأسى وموت الشخصية , إذ إن هناك أشكالاً من الموت الداخلي والنفسي الذي تبينه الكاتبة على الرغم من أن الشخصية ماتزال على قيد الحياة لكنها في جوانب أخرى تموت في كل لحظة حسرة وألماً ( ) , إن معاناة الشخصية بدأت منذ الطفولة ثم تفاقمت بعد أن فقد عينه الأخرى على الرغم من انه أراد أن يتحدى الآخرين بعين واحدة لكن القدر كان له بالمرصاد , إذ نعتقد أن المعاناة التي صادفته قد أدت إلى صقل شخصيته وإنضاجها لأنه كان صورة من التحدي والكفاح من اجل الحياة التي لم يستطع أن يراها إلا بعين واحدة إلى أن جاءته رصاصة الفرح وحكمت عليه بالنهاية , ولقد وفقت الكاتبة في إيصال رسالتها إلى القارئ وهي (( أوقفوا استعمال إطلاق العيارات النارية في المناسبات , لأن من المستحيل أن نعوض ما نفقده بسببها ))( ).
الشخصية المتسلطة :
تتمثل نزعة التسلط في الشخصية بمجموعة من العناوين والمفردات والدلالات العلمية والواقعية المطبقة في علاقات الفرد وتصرفاته وحياته العامة , ولابد من التوضيح أن بعض التسميات والعبارات التي نستخدمها في لغتنا الوصفية والأدبية قد لاتكون مستخدمة بذات اللفظ والمعنى والدلالة في لغة علم النفس التي نحاول أن نستعين بها في تحليل وتوصيف بعض الحالات , فهناك تسميات عدة منها الشخصية الفردية , أو الشخصية التسلطية , أو الدكتاتورية , أو الشخصية المرهوبة ( ).
وتأسيساً على ذلك ارتأينا ان مصطلح الشخصية ( المتسلطة أو التسلطية ) هو الأنسب في المنهج النقدي الذي يهتم بدراسة الشخصية في القصة , ومن
خلال رجوعنا إلى معجم ألفاظ الشخصية وجدنا ان (( سلَط فلان : طال لسانهُ , ومثلهُ سَلُط , وتَسَلّط عليه : تحكّم وتمكّن وسَيْطَر ))( ) فالمفهوم الاصطلاحي لا يكاد يخرج عن إطار المفهوم اللغوي فالشخصية المتسلطة أو كما أطلق عليها حسن بحراوي الشخصية المرهوبة الجانب (( تمثل الشخصية التي تتصرف من موقع قوة ما , وتعطي لنفسها التدخل في تقرير مصير الفرد أو الأفراد الذين تطالهم سلطتها )) ( ) ويمكن أن نتعرف على الشخصية المتسلطة من خلال سرد الأحداث (( إذ إن مفهوم السلطة فيها يسير جنبا إلى جنب ومفهوم الإخضاع والسيطرة وتحقيق المصلحة العامة على حساب المصالح الأخرى وهذا يستدعي قوة الترهيب لضمان جريان أحكامها واستمرار هيمنتها )). ( ) وإن تفشي هذه الشخصيات بصورة واضحة وجلية في مجتمعاتنا أدت إلى سيادة الدكتاتورية التي (( تسهم أسهاماً فعالاً ومؤثراً على نطاق واسع , ومن شأنها أن تلحق الأذى بالجنس البشري وتُغيّر معالم الأشياء والطبيعة والتاريخ وتزيف الحقائق وتزرع قيمها الخاصة , وهي قيم وأساليب سلبية سريعة التلون والتغير كما أن حوافزها ودوافعها وضوابطها وتوافقها والضمير الذي يحكمها ... كلها تعمل على نحو ذاتي . ولاتعني بأهمية أفعال الغير )) . ( )
أما(( بصدد صفات الشخصية المتسلطة فهي :-
1- شخصية تعشق القوة المسيطرة والممارسة من قبل المؤسسات والأفراد .
2-تمتلك موقفاً من الحياة يمتاز بالخضوع للقدر والماضي والعجز والامتثال لقوة أعظم منها , كأن تكون الله , أو الواجب وغيرها .
3-تتصف بالمعاناة وغياب الشكوى .
4- شخصية نسبية وعدمية فهي شخصية يائسة ومنعدمة الأيمان .
5- ينعدم في فلسفتها أي قيمة للمساواة , فلا القوي هو الأعلى ولا الضعيف هو الأدنى)).( )
لقد قدمت لنا الكاتبة أنموذجاً للشخصية المتسلطة في مجموعتها ( ارض الحكايا) في قصة بعنوان ( الجدار الزجاجي ) وهذه القصة تحتوي على ثلاث شخصيات متسلطة مارست ابلغ أنواع التسلط متمثلة بالزوج والأخ وزوجة الأب تجاه الأبناء :-
أولاً:-شخصية الأب المتسلط ( بريبش) الذي كان قاسياً ومتجبراً على زوجته وأبنائه كل من ( شاهر , وعيشة ) إذ تروي لنا الكاتبة على لسان شاهر ما حل بأمه من والدهُ بريبش , إذ كانت تقع تحت سلطة الضرب والإيذاء يقول :(( مرة واحدة رآها عارية تماماً تتلوى بانكسار تحت ضربات بريبش أبيه الذي اعتاد أن يعريها من ملابسها , وان يغلق باب البيت ويضربها حتى يدميها لأي ذنب تقترفه ...لأكثر من مرة كسر خرطوم الماء الخاص بأبيه بريبش أصبعاً من أصابع أمه التي كانت بنحول وضعف وهشاشة حبات خيار صغيرة ))( ) , كل هذا يدل على ظلم الزوج لزوجته من خلال السلطة التي منحت له .
ثانياً :- شخصية الأخ هي الأخرى امتلكت صفة التسلط من خلال تزويج الأخت دون أن تعلم ما هو معنى الزواج وهذا ما ظهر في أحداث القصة (( دون أن يفكر في أن يقول لها ولو لمرة واحدة كيف هي أحوالك يا أختي الصغيرة ؟ التي سرقها من
طفولتها , ودفع بها ولعبتها في حضن رجل في عمر أبيها بحجة ورقة بالية اسمها عقد زواج ))( ).
ثالثاً :- شخصية زوجة الأب وهي الخالة ( عايشة ) التي أجبرت شاهر وأختهُ بمناداتها أمي تنفيذاً لأمر أبيهم بريبش (( واجبر على ان ينادي الخالة ( عايشة ) أمي حتى وهي تضربه بخرطوم الماء البلاستيكي الأزرق الذي برى طفولته , واكل رافات من جلده , كان عليه أن يرجوها التوقف وهو يقول (( يامة يكفي , توبة والله , ماعدت أعيدها , يامة , مشان الله توبة , ولكنها ما كانت تتوقف حتى يبول على نفسه وعلى حشيشته القذرة المخصصة لنومه))( ).
لقد استخدمت معه ومع شقيقته اشد أنواع القسوة والعنف والحبس , لم يمارس الأب وزوجة الأب والخال حق ( السلطة التي يخولها له التقليد الاجتماعي حين يمنحه حقوقاً مشروعة هي التحكم في مصير كل فرد من أفراد العائلة , والحق في مراقبة الجميع مع استعمال الإكراه الجسدي أو المعنوي عند الاقتضاء , ففي كثير من الأحيان تتم ممارسة هذه السلطة بكيفية تعسفية تفرغها من مشروعيتها وتشحنها بشعور الكراهية والحقد المتبادل, الشيء الذي يؤدي إلى تردي العلاقة بين الآباء والأبناء ))( ) وكذلك يؤدي إلى نفور الأبناء من الأبوين حتى يصل الأمر إلى التمرد والعصيان والاحتراب بدرجة العقوق بسبب الضغط التعسفي من الأبوين.
لقد قدمت الكاتبة مشهداً ذا صورة واضحة من خلال ألفاظ ورموز ودلالات عن الواقع التسلطي الأليم في هذه العائلة فقام الأب بفرض سلطته الجبارة على أسرته واتخذت سلطته أشكالاً متعددة , تبدأ من استخدام الضرب المبرح لزوجته وصولاً إلى أطفاله وإنتهاءً إلى التدخل في شؤونهم وإملاء إرادته عليهم كلما تعلق الأمر بهم لقد كانت شخصية الأب شخصية سلبية لأن المفاجأة الحقيقية في القصة هي أن يقوم بضرب زوجته بخرطوم الماء وهي عارية , وهذه ليست المرة الأولى , فمن خلال السرد نلاحظ انه يذكر ( انه اعتاد ) أي تكرر هذا الفعل في الضرب لمرات عدة , وكل هذا يؤكد سلبيته , لأنه لم يتخذ صفة التسلط المشروع وهو أن يكون الزوج والأب المثالي الذي يسعى إلى تنظيم وإدارة شؤون هذه العائلة . بعد ذلك غيبت الكاتبة شخصية الأب والزوج المتسلط من الأحداث , فيظهر دور الأخ المتسلط من خلال دفعه بأخته غالى أن يخضعها تحت سطوة ذلك الرجل المجحف كبير السن بحجة بالية اسمها ( زوج ) , ثم تنتقل الكاتبة إلى شخصية متسلطة أخرى وهي شخصية زوجة الأب ( الضرّة ) التي هي الأخرى قادت أحداث التسلط إلى نهاية القصة باستخدامها أبشع صور التسلط والعدائية والتعالي والتجبر ضد أطفال بسن مبكر لتدفع بهم إلى الانتحار والهروب , فقد استعبدت كلاً من ( عيشة وشاهر ) وكانت ردة فعل عيشة أن تحرق نفسها منتحرة , أما شاهر فقد هرب من بيت أبيه . أما عنوان القصة وافتتاحيتها فلم تخل من الإشارات والدلالات فكان عنوان القصة ( الجدار الزجاجي ) يدل على أن هناك موانع ومعوقات في مضمون القصة وهذا ما وجدناه , فكان التمهيد مقدمة للدخول في أجواء القصة لأن الافتتاحية تكون ذات أهمية بالغة في القصة لأنها تظهر لنا مدى ربط هذه الخيوط فيما بعد بين الأحداث والشخصيات .
وفي قصة ( خليفة الله ) تقدم لنا الكاتبة شخصية أخرى متسلطة وهي شخصية الملك الظالم , فمن العنوان نلاحظ أن الكاتبة أرادت أن يكون العنوان دلالة على التسلط لكن خليفة الله لايمكن أن يكون جائراً , فهذا العنوان يجب أن يحمل صفة العدل بين الناس لكنه كان على العكس محباً للألقاب الرنانة والبراقة عاملاً بعكس ما يتصف به اسمهُ أو كنيته ( وقد جرب كل ألقاب الحكم , فارضاه لقب خليفة الله , إذ عد نفسه ظل الله في الأرض فأطلق يده في دم العباد , وحدث نفسه طويلاً بأنه ليس خليفة الله في الأرض بل هو اله الأرض عينهُ ))( ) , فحواره مع نفسه جعله بمرتبة الربوبية وهذه الصفة التكبر المقيت وهو مرض العظمة (( أن نزعة التسلط في سلوك الفرد هي ذاتها التي تسمى النزعة الدكتاتورية – بغض النظر عن المستوى الذي
تظهر فيه أو تطبق فيه – سواء كان على المستوى البسيط الذي يحكم علاقة الفرد الشخصية أم العائلة مع الآخرين من معارف , أم على المستوى الأوسع والأشمل والأخطر)) ( ) , إذن فما نلاحظه من مفارقة حاصلة بين فعل الشخصية وعنوانها , ومن المفارقات في هذه الشخصية انه كان يتجول بين الناس , فالمعروف أن الحاكم عندما يتفقد أحوال الرعية يحاول أن يحل مشاكلهم وان يؤمن احتياجاتهم , لكن خليفة الله كان على العكس من ذلك , إذ نراه كلما وجد قضية ينتفع منها الناس أمر بإلغائها أو تبديلها (( فقد وقف على طعام الرعية , وجرب بقرف أن يأكل من طعامهم , فتذوق طبقهم الشعبي الفقير الذي يخلو من لحم أو مرق أو دهن , إذ كان الطبق الوحيد المتوفر في أيديهم التي فرغت من المال ...أعجبهُ ما يأكل , وتحرق ندماً على تفريطه لجهله بهذا الطعام اللذيذ , إذ أوقفه على نفسه , فيما ألزم الرعية بحمية إجبارية حفاظاً على صحتهم المتدهورة لسبب يجهله )) ( ) , وبذلك استطاع أن يكون عينا ساهرة على ظلم الرعية لا على مساعدتهم وتخفيف آلامهم , نلاحظ أن هذه القصة تصور لنا مظهراً من مظاهر التسلط الحاصل من السلطان وهو لون من الإخضاع والظلم
فإن شخصية خليفة الله لا تختلف عن شخصية المستعمر الغازي فهما وجهان لعملة واحدة , فانها تكبت الحريات وتنهب الثروات وتمارس الظلم بجميع أشكاله .
وفي قصة ( الحكاية النموذج ) ( ) تظهر لنا شخصية الأخ المتسلط الذي كان قد اعتاد على أخذ من أموال شقيقته بالقوة وعندما قالت له لا أعطيك قام بقتلها
مدعياً أنها أهدرت شرفها , مستحقة الموت على وفق زعمهُ يعرف طقوس المجتمع المتوارثة , فشخصية الأخ المتسلط تقدمها لنا الكاتبة بصورة تعسفية وذات نظرة ضيقة تجاه الرجل وخاصة الأب والأخ في أكثر من قصة مصورة لنا المرأة مضطهدة من قبل الطرف الآخر.
الشخصية المثقفة :
يشير مصطلح المثقف في المعاجم , المأخوذ من الفعل الثلاثي ( ثَقِفَ)
فلان , صارَ حاذقاً فطناً ( ) ويؤكد ابن منظور بأن الفطنة والذكاء وسرعة الفهم والتعلم هي صفات الرجل المثقف ( ) ولا يخرج هذا التعريف عن المعنى الاصطلاحي بشيء ((فالمثقف إنسان علم ومعرفة وموقف حضاري عام تجاه عصره ومجتمعه , إنسان شديد التأثير بالبيئة الاجتماعية المحيطة به , كما انه في الوقت نفسه إنسان شديد التأثير في وسطه الاجتماعي , وفي محيط عالمهُ وعصره , وذلك لما له من قوى فكرية خاصة , ومواهب روحية ونفسيه متميزة )), ( ) فالمثقف هو شخصية يرفض التخلف , والمثقف هو الممثل الأول للنزوع الحضاري نحو التطور والتخلص من التخلف بكل جوانبه , ويقسم المثقف على مثقف , اشكالي , وايجابي (( فالاشكالي , غالباً ما يكتفي بالرغبة في الأحلام والتغير دون أن يتعدى هذه الرغبة إلى مجال العمل والممارسة , ذلك انه إذا فعل فإنه يتحول إلى بطل ايجابي منتمٍ فتفتقد اشكاليته )), ( ) وهناك مثقف سلبي (( وهو الشخص الذي يكون بلا قيم فهو يقع في مستنقع القذارة , وينغمس في حياة الغاب , تقوده أنانيته إلى الفتك بالآخرين والصعود على جثث الأبرياء ...ذلك انه لايحمل قيم قْبليّة , ولا ثقافات سابقة يمكن أن تجعل لسلوكه مرتكزاً ثابتاً , وشعارهُ دوماً ...عش حياتك وتمتع بها ولاتفكر , لأن تفكيرك سيعرضك للعداء حتى من اقرب الناس اليك , فأنت بذلك تظهر لهم قوتك وجهلهم )) , ( ) فشخص المثقف يختلف من شخص لآخر فهناك (( المثقف المخلص لمبادئه وهذا المثقف يتمزق بين انتماءين متناقضين أحدهما يشد إلى الوطن حيث التخلف , وثانيهما إلى الغرب حيث التقدم والمعاصرة ويتميز هذا المثقف بالإخلاص للضدين معاً , لذا فهو رافض ومرفوض سلبي وايجابي في آن واحد )) ( ) فالمثقف إنسان يمتلك بذرة الخير والشر في تكوينه , لكن الواجب عليه ان يكون ذا نزعة تدعو إلى الخير أكثر مما ان يكون نرجسياً لأنهُ متعلم وانه قادر على تحديد ما هو صواب وما هو خطأ , وان الواجب عليه ان يقف مــــع الحق ويناصره , فالأنبياء والصالحون جوبهوا وأوذوا من اجل القضية التي وكلوا بها . فمن واجب القارئ من خلال مطالعته للقصة أن يغور في أعماق الشخصية المثقفة بالكشف عن ما آلت اليها أفكار الشخصية وعلاقتها مع أحداث القصة والرواية وموقفها من هذه الأحداث , أما كاتب القصة فينعكس في أسلوبه وفي رسم شخصياته المثقفة الخلفية الفكرية والفنية التي يستند اليها .
تقدم لنا الكاتبة في قصة ( حادث مؤسف سعيد جداً ) شخصية المثقف الذي يريد ان يمارس وجوده الإنساني على النحو الذي يحقق له الامتلاء بالحياة والحب دون مصادرته من أحد في إعادة تركيب الواقع المستعر حوله بما يهدد قيم الحق بالزوال الآيلة مكوناتها كافة إلى السقوط تماماً , فقد عجت حياته بالسواد , مضرجة بالقلق وهو يكابد احتضاره بين الواقع السيئ المهموم وتأنيب الضمير لما اقترفه من إثم في فقء عين ( مصطفى ) الوحيدة التي بذهابها فقد بصره على الرغم من إنه كان رجلاً مثقفاً متعلماً كان عليه أن يتصرف بأكثر حكمة ولايعمد إلى الضرب , لكن الأمر في رأي اغلب الجيران كان مستحقاً على الرغم من أن ( محمود ) بات نادماً على فعلته (( أنا شاب متعلم , متعلم إلى حد معقول , احمل الشهادة الجامعية الأولى ولولا ضيق ذات اليد , لكنت ألان من حملة شهادة الدكتوراه في حقل من حقول الفيزياء التي أحبها ... هل كانت نظرةً فضولية على جسد شقيقتي الصغرى وهي تشطف سلم
البيت , مشمرة عن قدميها حتى الأفخاذ تستحق عين مصطفى الوحيدة ثمناً لها ؟ الكل قال ( نعم ) الجيران شدوا على يدي مؤيدين موقفي , حتى الجارة أم مصطفى لم تعد تدعو علي بالعمى والعجز والفقر عندما هدأت سورة غضبها وقبلت بنصيب ابنها من العمى عقاباً له على تجسسه على أعراض الناس ))( ) , إذن فالشخصية المثقفة لم تقف بصورة اعتباطية تجاه الموقف الذي صادفه فقد تعامل بصورة واضحة ورادة ورافضة لهذا الموقف مستعينا بيده لرد هذا الأمر السيئ , لكن بقي ضمير الشخص المثقف يؤنبه ويطارده طيف عين مصطفى , فمن خلال تطور الشخصية عبر تجربتها ووعيها بتأثير الحوار مع الذات وخوضها تجربة البحث عن الحقيقة الواقعية , يردد في نفسه لأكثر من موقف قائلاً :(( ولكنني كنت اعلم إن كل نساء الدنيا لاتساوي عين مصطفى التي طاردني زلالها الأبيض ليل نهار ونغص عيشتي ومنعني من النوم والأكل أو الراحة ... فكرت طويلاً في أن أهب إحدى عيني , وان أعيش بالأخرى , وسرت قُدماً في مشروعي الخطير إلى أن خاب مسعاي ... جلست طويلاً إلى نفسي وحاكمتها بموضوعية بالية وأصدرت الحكم على نفسي , دون تحيز أو
تجن , العين بالعين , والسن بالسن , والبادي اظلم , لذا فقد حكمت على نفسي بالعمى ))( ), وكل هذا لكي يرتاح ضميره ولكي يهنأ بحياته ولو بالنوم أو الراحة , فالحوار الداخلي أشبه بسيرة ذاتية تقوم على تصوير ومعايشه المعاناة الداخلية للشخصية في أدق خلجاتها وإبرازها لنا بصورة فنية رائعة , حتى أن القارئ يشعر بشيء من المصداقية في لغة الحوار الداخلية .
عمد المثقف على تنفيذ حكمه بمراحل فكانت المرحلة الأولى أن يخلع النظارة إذ انه كان مصاباً بقصر النظر وانحراف بالشبكية وهذا أول دخول شخصية المثقف في بودقة فقدان البصيرة التي كان يتمتع فيها وانجراره في باب الرشوة والغش واستغلال مكانته الوظيفية في تسهيل توقيع الوصولات والمعاملات غير الرسمية (( وصلت قبل انتهاء وقت الدوام بساعتين , ولما لم أكن قادراً على القراءة وتعذر علي أن اخبر الآخرين بوضع الرؤية عندي , وبقرار محكمتي الذي صدر ضدي , فقد اضطررت للتوقيع بالموافقة على كل طلب قدم لي , الأمر الذي فاجأ كل من حولي , واسعد مديري الفاضل !! وجعله يربت على ظهري قائلاً : بنبرة لئيمة , ألان بدأت ترى الدنيا كما يجب , ولكنني بكيت طويلاً عندما وجدت مساءً في جيب بنطالي رزمة نقود خمنت مصدرها , وسبب وجودها ))( ) , يمتلك الخطاب السردي هنا رغم تمحوره حول موضوع فقدان بصر مصطفى على يد احد أفراد حارته بسبب تجسسه على أعراض الناس في القدرة على اتساع دلالة ( العمى ) رمزاً للإنسان الذي لايريد أن يرى الحقيقة ( بأنه أعمى ) مؤكداً مديره ( الآن بدأت ترى الدنيا كما يحب ) فإن نصوص القصة غير معنية بالإفصاح عن مقاصد القصة فيها إلا من خلال حركة القص نفسها وعبرها أيضاً .
إن رضوخ شخصية المثقف إلى الواقع نفسه , وهو يوغل في استسلامه للصمت والانحراف وراء ملذاته بحجة العمى المصطنع ,وكلما بدأت مرحلة جديدة من مراحل تنفيذ حُكمه بالعمى بدأت أحواله المعيشية تتحسن , إلى أن وصل إلى المرحلة الأخيرة وهي العمى التام (( أصبحت أعمى تماماً , ولم اعد أفكر أصلاً بالرؤية التي كانت تسبب لي المشاكل والهموم , وعدت محضوضاً بعملي أكثر من مصطفى المسكين الذي ما عدت أبالي به أبداً )) . ( ) لقد قدمت لنا القاصة مفارقة في شخصية المثقف حيث التمسنا ان هناك كثيراً من ضغوط العمل وما آلت اليه الأحداث في القصة جعلت الشخص المثقف ان يتنازل عن المبادئ التي كانت سمة من سماته , إذ أن هناك الكثير من الأوهام التي كانت تغلف حياته إلى ان جاءت حادثة العمى (( قد كانت طالع سعدي فهي التي فتحت لي أبواب الحظ على مصاريعها بعد شقاء طويل كان البصر والعناد السببين الوحيدين فيه )). ( ) فأنه خرج من الدائرة التي كان متمسكاً بها وانخرط مع مديره في مهاوي العمل غير الصحيح .
لم تهتم القاصة الاهتمام البالغ بشخصية المثقف في قصصها بإعطائها المساحة الواسعة في كتاباتها وانما كانت تمر عليها مرور الكرام على الرغم من انها تعد من أنصار هذه الطبقة ومن روادها مؤكداً ( إبراهيم خليل ) في مقدمة المجموعة القصصية ارض الحكايا قائلاً (( فهي لا تنتقي ابطالها من المثقفين أو من طبقة اجتماعية عليا , وبذلك تقترب من القارئ وتختصر المسافة بينه وبين المتلقي ))( ) وإذا تطرقت في قصصها إلى شخصية المثقف لا تعطيه الصفة الثابتة وإنما تضلل هذه الشخصية بشيء من السلبية أو التناقض , ربما لأن القصة ليست فيها المساحة الواسعة لتغطية مفهوم هذه الشخصية أو انها أرادت أن تحاكي الطبقات الأخرى لقربها من القُراء . فنلاحظ سلبية شخصية المثقف التي تقدمها الكاتبة في قصصها , ففي المجموعة القصصية الهروب إلى أخر الدنيا تطلعنا الكاتبة من خلال أكثر من
مشهد , ففي قصة ( دعوة زفاف ) يظهر لنا المشهد من خلال السرد الحكائي على لسان الراوي (( عرفا أحدهما الآخر قبل أشهر طويلة , قابلها كما يقابل الغرباء , كانت تجلس في الصف الأول في القاعة التي سيلقي فيها محاضرته اليومية لمدة فصل كامل , كان هو من سيلعب دور الأستاذ الجامعي في لعبة غريبة على مسرح الحياة ...جاء إلى عالمها فنسف زوجها من قلبها ولم يبق منهُ إلا الاسم والجسد , وجاءت إلى عالمه فأصبحت زوجته وبناتهُ الثلاث خيالات تجوس في دنيا نورها الذي يغشاه )).( ) فالأستاذ الجامعي هنا ينتمي إلى طبقة المثقفين صورته القاصة من خلال هذه القصة بأنه إنسان قد استسلم أمام عاطفته وانجر وراء أهوائه وبدأ يتعلق بتلك الفتاة التي كانت طالبته وأصبحت حبيبته , فكان من المفروض أن يحافظ الأستاذ على توازنه كونه مربياً ومثقفاً , لكن الشعلان هنا جعلته سلبياً من خلال ما حل بأسرته وما حل بأسرتها , وهذا الموقف يدل على عدم تأثره بمن حوله .
العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق