أ.د. محمد الدعمي
” .. كان خروج القوات الأميركية من العراق خطأ، بل وخطأ لا يقل خطورة عن تسليمها السلطة لقيادات حزبية معارضة، هي أحزاب لا رشيدة ولا وطنية، كانت قياداتها قد قضت جل سني عمرها معتاشة على موائد المساعدات البريطانية والأوروبية والأميركية الشمالية، درجة إماتة الوازع الوطني في دواخلها على نحو لا يرتجى له قيام، للأسف.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما رفضت إحدى حكومات بغداد السابقة توقيع اتفاقية أمنية لبقاء قوات أميركية في العراق، إستعراضاً مزيفاً للروح الوطنية وتسويقاً ملفقاً للإستهلاك المحلي، تلقفت إدارة الرئيس الجديد آنذاك، باراك أوباما، خبر الرفض من حكومة بغداد بكل إمتنان وعرفان، ليس لأنها متأكدة من قدرة حكومة بغداد على إدارة دفة البلاد والعباد على المسار الصحيح، ولكن إيفاءً بالوعود التي قطعها أوباما على نفسه أمام الناخبين بسحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، وبالإقلال من الوجود العسكري الأميركي عبر العالم، في سبيل التركيز على مشاكل البلاد الداخلية، الإقتصادية والاجتماعية، من بين سواها.
ويبدو أن الذي حدث على أرض الواقع معاكس تماماً لما إدعته حكومة بغداد حينذاك من كفاءة وقدرة على إدارة شؤون البلاد دون حاجة للأميركان ولا لقواتهم، بدليل التظاهرات العارمة الجارية الآن، أصوات الاحتجاج الاجتماعي التي لا تبدو لتتوقف في وقت قريب، بسبب فشل حكومات بغداد المتتابعة في تقديم الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين، ومن بينها الخدمات الضرورية لبقاء الوجود الآدمي (الكهرباء والماء والصحة والتربية والأمن، من بين سواها). بل وإن الأدهى قد تجسد في نهب ثروات العراق وإفراغ خزينته، درجة اضطراره لالتماس وتوسل القروض من اية جهة كانت، تجنباً للتحقيق والتحقق من القنوات والثقوب الكثيرة التي تسربت منها الأموال الطائلة من تصدير النفط ومن مبادرات إطفاء الديون الدولية، ومن الهبات والمنح التي قدمتها دول غنية بعيد الاحتلال، على أمل أن تديرها الحكومات المحلية على النحو الذي يكفي العباد شرور الفساد التظاهر والإعتصام والاحتجاج. بيد أن حلقة الشر السحرية بقيت تدور بسرعة فائقة دون توقف حتى فقد الجمهور صبره ورباطة جأشه، كي يخرج للتظاهر والإعتصام، وربما التمرد المدني في القريب العاجل.
لذا كان خروج القوات الأميركية من العراق خطأ، بل وخطأ لا يقل خطورة عن تسليمها السلطة لقيادات حزبية معارضة، هي أحزاب لا رشيدة ولا وطنية، كانت قياداتها قد قضت جل سني عمرها معتاشة على موائد المساعدات البريطانية والأوروبية والأميركية الشمالية، درجة إماتة الوازع الوطني في دواخلها على نحو لا يرتجى له قيام، للأسف.
وهكذا تم اجهاض المشروع الأميركي الذي امتطى مثلاً وقيماً طيبة لإحالة العراق الى مركز اشعاع وتقدم في قلب الشرق الأوسط، إلا أنه قد استحال الى “فرهود” نهب جديد يضاف الى سلسلة الفرهود التي يتشكل منها تاريخ هذه الأرض منذ اقدم العصور حتى اللحظة.
صديقي السابق، النائب عزت الشابندر، الذي كان يحدثني عن مثاليات “الإخوان المسلمين” وآفاق “الحزب الفاطمي” سنة 1967، يعلن أمام الملأ اليوم بأن توزيع الحقائب الوزارية على الأحزاب الطارئة على العراق، إنما يتم حسب مساومات، تشبه الى حد كبير عرض البضائع في المزادات العلنية، فما هذه المأساة!
صديقي السابق هذا يمتنع عن الإجابة على رسائلي المتكررة اليه، لأنه منهمك في مهمات وطنية وروحية، أي في “مشاغل أخرى”. هو بدرجة من الإنهماك في إشاعة المثل الوطنية والدينية لأهل البيت، انه نسي حماية عائلته، فراح ابن أخيه ضحية تفجير في كرادة بغداد الشرقية، حيث كان صديقي يناضل ضد السلطة قبل أن يغادر هرباً من عيونها فيما بعد.
ان العراق لن يتمكن من أن يحكم نفسه بنفسه، فالنظام الفيدرالي والديمقراطي كثير على شعب توالت على حكمه الأنظمة الشمولية منذ بداية تاريخ دولته الفتية، 1931، بدليل ما حث من تردي ونكوص وتراجع خلال أكثر من عقد من السنين، الأمر الذي يوجب الإستعانة بسلطة رشيدة لإدارة شؤون العراق (ربما كانت الأمم المتحدة) آنياً حتى يتم وضعه على سكة مستقيمة خالية من اللصوص والمرتشين والمختلسين، عسى أن تمرر بعض الثروات لأبناء الشعب المحطم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق