وجد الرسول الكريم، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، العرب قبائل لا تلتوي، فلواها بفضائل الإسلام الحنيف، إذ كانت العرب تتقاتل فيما بينها لعشرات السنين لأسباب تافهة، إلا أنها سرعان ما تتضخم بسبب العصبية القبلية، كما حدث في حرب “البسوس” التي استهلكت الكثير من الأرواح والدماء لسنوات لم تكن لتنتهي آنذاك.
لذا لا يصيب الكثير من العرب والمسلمين عامة عندما يحتفون بيوم “فتح مكة” بوصفه يوم تحطيم الأصنام الذي أشر بداية عصر الإسلام الحق. إن الإنجاز التاريخي لم يكن ليتحدد بتهشيم الصحابة الكرام (رضي الله عنهم) الأصنام المادية المصنوعة من الصخور والأحجار والخشب المكسي بأنواع الزيوت والعطور والدهون الجامعة لغبار الزمن وصحارى العرب، ذلك أن الإنجاز الحقيقي للإسلام قد تحقق في تحطيم أصنام من نوع آخر كذلك، وأقصد الأصنام الاعتبارية غير الملموسة، ومن بينها أصنام العصبية القبلية والمال والتمييز العنصري وازدراء المرأة والمستضعفين كالأجانب والعبيد، من بين سواها من الأوثان العديدة التي أتى عليها الإسلام مذاك. وقد أفرزت “ثورة الإسلام” ضد الأصنام على أنواعها، نمطًا تاريخيًّا ذا قيمة معيارية يمكن أن يوظفها المسلمون من عصر لآخر على سبيل مراجعة الذات وتقييمها، ثم تقويمها.
وإذا كانت قريش قد وظفت العصبية القبلية أداة نكراء لعزل الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وبني هاشم عامة، فإنها ما لبثت وأن تهاوت أمام تسامح محمد (صلى الله عليه وسلم) وقدرته فوق الآدمية على الارتقاء بالنفس إلى أعالي أجواء التعايش والمحبة، التعاون والتعاضد الاجتماعي. وهكذا أطلق الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) العرب الذين بقوا أمة مشطرة منسية طي صحاريها لا يطمع بهم ولا ببلادهم أي امبراطور أو قوة دولية حقبة ذاك، نقول أطلقهم ليحرروا العالم القديم من أصنامه على نحو متناغم مع ما حدث بين مكة ويثرب على سني حياته (صلى الله عليه وسلم).
للمرء أن يستذكر هذه الحقائق الجوهرية في “ثورة الإسلام”، الحقائق التي وظفها الشاعر الرومانسي الإنجليزي البارز، شيلي Shelley، لإصلاح بريطانيا عصره في قصيدته الملحمية The Revolt of Islam، في سياق مراجعة المئات وربما الآلاف من المفاهيم الخاطئة التي تغرسها نظمنا التعليمية أحيانًا في نفوس النشء والشبيبة، خطأً وتجاوزًا للحقيقة. ويستذكر من جايلني من الختيارية كيف تمت تنشئتنا على أن الإسلام قد هشم الأصنام المادية فقط، إذ لم تتجاوز هذه التنشئة المضطربة حدود الحكاية التي كان يتناقلها الأجداد والجدات المتكئين على وسائد الأمسيات الطوال أمامنا ونحن صغار.
وإذا كان التغير الجذري الذي جاء به الإسلام في الارتقاء بالعرب إلى ما فوق العصبية القبلية، معيارًا وأداة قياس لمراجعة المسلمين الذات، فإن ظهور العصبيات وبروز دورها في الحياة والثقافة العربية من آن لآخر يعد مؤشرًا، صاعدًا ونازلًا، على تعافي الأمة وتدهور صحتها، لا سمح الله.
إن التذكير بأهمية هذا المعيار والحض على الارتجاع إليه وتوظيفه لتقويم الذات، مهم اليوم للغاية لأن عودة العصبيات إلى الحياة العربية والإسلامية عامة إنما تؤشر تدني التزامنا بالمثل المحمدية التي قلبت العرب من أمة منسية طي بواديها إلى أمة فتوحات فتحت العالم القديم بأسره عبر بضعة عقود، من الصين إلى شبه جزيرة إيبريا.
للمرء أن يشعر بالإحباط اليوم عندما يستعرض حال العرب والمسلمين عامة، ودرجة ارتكانهم إلى ما كان هو الإكراه لأخلاق ورسالة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، أي العصبية. وإذا كان محمد (صلى الله عليه وسلم) هو من لجم ثم بتر العصبية القبلية حقبة ذاك، فإننا بحاجة لدرسه التاريخي هذا اليوم لنبتر ونلجم ما استهلكنا من أنواع وأشكال العصبيات المستحدثة التي ابتكرناها، فابتعدنا عن الأنموذج والمثل الإسلامية الأولى. وإذا ما لاذ الكثيرون اليوم بالعصبيات القبلية والعشائرية والفئوية والمناطقية والحزبية، من بين سواها من أنماط العصبيات المبتكرة للأسف، والتي وصلت حد العصبية لفرق كرة القدم، فإن على المصلحين الاجتماعيين أن يوظفوا هذه الظواهر التقسيمية الخطيرة، مسطرة لقياس درجات تراجعنا عن الأنموذج المحمدي الأول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق