أ.د. محمد الدعمي
إن عوالم ناطحات السحاب والمكننة والشبكات الرقمية لا يمكن إلا أن تفرض على إنساننا الأصل، وأقصد الإنسان البدوي أو نصف البدوي، حالا موجعة من الاغتراب، ذلك الاغتراب الذي يتجسد في صورة رجل بدوي يجالس جمله تحت ظل ناطحات السحاب التي تبدو للرائي بدرجة من البعد أنها تعكس كوكبًا سوى كوكب الرجل البدوي، ممسكًا بعصاه في وحشة الصحراء.
كلما ارتجعت إلى جوهرة الأدب الفولكلوري العربي/الإسلامي، (ألف ليلة وليلة)، راودني شيء من القلق حيال المدينة العربية أو الشرق أوسطية المعاصرة، بغض النظر عن اختلالاتها وضعف خدماتها، ناهيك عن اصطناعيتها، خاصة بعدما اعتاد أولو الأمر إنفاق الملايين من الدولارات على استيراد أعلى ناطحات السحاب واستزراعها عبر صحارينا، أو عبر مدننا المتصحرة.
تقدم (الليالي العربية) Arabian Night ، كما يحلو للغربيين تسمية (ألف ليلة وليلة) سياحة عابرة للعصور في حواضر عظمى من العصر الوسيط، كبغداد والبصرة وسامراء، من بين سواها من كبريات مدن ذلك العصر. بيد أن ما تتيحه حكايات (الليالي) أعلاه يتلخص في صدمة الوعي التي تقدمها للقارئ المعاصر النابه، خاصة عندما تأخذه الأحلام إلى عالم العصر الوسيط. وإذا ما افترضنا أن بغداد هارون الرشيد كانت هي مسرح (الليالي العربية)، فإن علينا أن نندب طالع سكان المدن العربية والإسلامية اليوم، نظرًا لصدمة قوامها أن المرء يكتشف بأن سكان البصرة أو دمشق أو القاهرة إبان العصر الوسيط كانوا أكثر “تمدنًا” من سكان أغلب الخواطر العربية اليوم. هذا هو “قلب الظلام” الذي يغلف المدن العربية اليوم.
لقد كانت مدن (الليالي) أكثر من مدن هذا العصر تمدنا والتزامًا بالقيم والأنساق الاجتماعية والاقتصادية المدينية مقارنة بمدن الشرق الأوسط اليوم. وأية رحلة في عوالم (الليالي) تميط اللثام عن بنى وعلاقات اجتماعية لا تخلو من الاختلالات، ولكنها أكثر ملاحظة لتقاليد المدينة وطبيعة العلاقات السائدة بها. هذه الملاحظة الطريفة تنطبق كذلك على الوصف المبتسر الذي تقدمه أعمال فولكلورية أخرى كـ(المقامات)، إذ يجد المرء عالمًا مدينيًّا مطلق البعد عن الريف أو عن البادية.
في الأرياف والبوادي العربية عامة، تجد إنسانًا مختلفًا، يتبع قيمًا وأنساقًا سلوكية مختلفة بالتمام. هذا هو سر انتقائي لصورة غلاف كتابي الأخير الموسوم بـ(إقليم المفارقات: تسعة مظاهر من رجوعية الشرق الأوسط): بيروت. الصورة طريفة ومرآة لمحتوى الكتاب ورسالته، وهي: إقامة ناطحات سحاب تجعل ساكنها العربي والمسلم في حال من الاغتراب. إن عوالم ناطحات السحاب والمكننة والشبكات الرقمية لا يمكن إلا أن تفرض على إنساننا الأصل، وأقصد الإنسان البدوي أو نصف البدوي، حالا موجعة من الاغتراب، ذلك الاغتراب الذي يتجسد في صورة رجل بدوي يجالس جمله تحت ظل ناطحات السحاب التي تبدو للرائي بدرجة من البعد أنها تعكس كوكبًا سوى كوكب الرجل البدوي، ممسكًا بعصاه في وحشة الصحراء.
لقد احتضنت مدن العصر الوسيط العربية والإسلامية سكانًا يختلفون تمامًا عمن أطلق ابن خلدون عليهم لفظ “الأعراب”. كان سكان مدن العصر الوسيط يرضخون لقيم وتقاليد وعادات تفكير مدينية، بمعنى عادات فيها من المرونة ما يكفي لتأسيس الخليفة العباسي “بيت الحكمة” ولانتداب أذكى العقول عبر العالم للعمل به، بغض النظر عن العصبيات الإثنية والدينية والطائفية. لذا لم تكن بغداد عصر المأمون بحاجة لسن قانون يمنع الإساءة لأصحاب الديانات والعقائد الأخرى.
هذا النوع من القوانين والتشريعات، إنما هو من معطيات بقاء العصبيات الصحراوية على أنواعها في قعر عقل الإنسان المديني العربي، للأسف. بل إن ما تعنيه هذه الملاحظة هو أنه على الرغم من البنايات الشاهقة وأجهزة التبريد والتدفئة والشوارع المعبدة والجامعات والمستشفيات والمراكز العلمية، بقيت مدننا مجرد “قرى متضخمة”، بدليل بقاء قيم البداوة والعشائرية والوجود الآدمي الطافي على مدار لا زمني، لا يحترم فيه الوقت ولا نوبات العمل، ولا جماليات الوجود المدني الحق. لذا تنشغل محاكم مدننا بقضايا جرمية من نوع الثأر والانتقام وغسل العار والاحتكاكات التي تذكرنا بعصور الغزوات والغنائم.
لقد أفرزت مدن العصر الوسيط التي تتجسد في (الليالي)، من بين سواها من الأعمال العظيمة، سكانًا مدينيين لا يعرفون بألقاب العشائر أو القبائل، لأنهم كانوا يفضلون ألقاب الحرف المدينية التي كانوا ينتسبون إليها، بوصفها أسمى من الولاء للقبيلة. هكذا ظهرت ألقاب من نوع الحداد والدباغ والخطاط والورد والنجار، من بين سواها من الألقاب المدينية التي تعكس نظرة دونية إلى ألقاب الصحراء، من نوع غسان وعدنان وقيس، مع أفخاذها.
تقدم (الليالي العربية) Arabian Night ، كما يحلو للغربيين تسمية (ألف ليلة وليلة) سياحة عابرة للعصور في حواضر عظمى من العصر الوسيط، كبغداد والبصرة وسامراء، من بين سواها من كبريات مدن ذلك العصر. بيد أن ما تتيحه حكايات (الليالي) أعلاه يتلخص في صدمة الوعي التي تقدمها للقارئ المعاصر النابه، خاصة عندما تأخذه الأحلام إلى عالم العصر الوسيط. وإذا ما افترضنا أن بغداد هارون الرشيد كانت هي مسرح (الليالي العربية)، فإن علينا أن نندب طالع سكان المدن العربية والإسلامية اليوم، نظرًا لصدمة قوامها أن المرء يكتشف بأن سكان البصرة أو دمشق أو القاهرة إبان العصر الوسيط كانوا أكثر “تمدنًا” من سكان أغلب الخواطر العربية اليوم. هذا هو “قلب الظلام” الذي يغلف المدن العربية اليوم.
لقد كانت مدن (الليالي) أكثر من مدن هذا العصر تمدنا والتزامًا بالقيم والأنساق الاجتماعية والاقتصادية المدينية مقارنة بمدن الشرق الأوسط اليوم. وأية رحلة في عوالم (الليالي) تميط اللثام عن بنى وعلاقات اجتماعية لا تخلو من الاختلالات، ولكنها أكثر ملاحظة لتقاليد المدينة وطبيعة العلاقات السائدة بها. هذه الملاحظة الطريفة تنطبق كذلك على الوصف المبتسر الذي تقدمه أعمال فولكلورية أخرى كـ(المقامات)، إذ يجد المرء عالمًا مدينيًّا مطلق البعد عن الريف أو عن البادية.
في الأرياف والبوادي العربية عامة، تجد إنسانًا مختلفًا، يتبع قيمًا وأنساقًا سلوكية مختلفة بالتمام. هذا هو سر انتقائي لصورة غلاف كتابي الأخير الموسوم بـ(إقليم المفارقات: تسعة مظاهر من رجوعية الشرق الأوسط): بيروت. الصورة طريفة ومرآة لمحتوى الكتاب ورسالته، وهي: إقامة ناطحات سحاب تجعل ساكنها العربي والمسلم في حال من الاغتراب. إن عوالم ناطحات السحاب والمكننة والشبكات الرقمية لا يمكن إلا أن تفرض على إنساننا الأصل، وأقصد الإنسان البدوي أو نصف البدوي، حالا موجعة من الاغتراب، ذلك الاغتراب الذي يتجسد في صورة رجل بدوي يجالس جمله تحت ظل ناطحات السحاب التي تبدو للرائي بدرجة من البعد أنها تعكس كوكبًا سوى كوكب الرجل البدوي، ممسكًا بعصاه في وحشة الصحراء.
لقد احتضنت مدن العصر الوسيط العربية والإسلامية سكانًا يختلفون تمامًا عمن أطلق ابن خلدون عليهم لفظ “الأعراب”. كان سكان مدن العصر الوسيط يرضخون لقيم وتقاليد وعادات تفكير مدينية، بمعنى عادات فيها من المرونة ما يكفي لتأسيس الخليفة العباسي “بيت الحكمة” ولانتداب أذكى العقول عبر العالم للعمل به، بغض النظر عن العصبيات الإثنية والدينية والطائفية. لذا لم تكن بغداد عصر المأمون بحاجة لسن قانون يمنع الإساءة لأصحاب الديانات والعقائد الأخرى.
هذا النوع من القوانين والتشريعات، إنما هو من معطيات بقاء العصبيات الصحراوية على أنواعها في قعر عقل الإنسان المديني العربي، للأسف. بل إن ما تعنيه هذه الملاحظة هو أنه على الرغم من البنايات الشاهقة وأجهزة التبريد والتدفئة والشوارع المعبدة والجامعات والمستشفيات والمراكز العلمية، بقيت مدننا مجرد “قرى متضخمة”، بدليل بقاء قيم البداوة والعشائرية والوجود الآدمي الطافي على مدار لا زمني، لا يحترم فيه الوقت ولا نوبات العمل، ولا جماليات الوجود المدني الحق. لذا تنشغل محاكم مدننا بقضايا جرمية من نوع الثأر والانتقام وغسل العار والاحتكاكات التي تذكرنا بعصور الغزوات والغنائم.
لقد أفرزت مدن العصر الوسيط التي تتجسد في (الليالي)، من بين سواها من الأعمال العظيمة، سكانًا مدينيين لا يعرفون بألقاب العشائر أو القبائل، لأنهم كانوا يفضلون ألقاب الحرف المدينية التي كانوا ينتسبون إليها، بوصفها أسمى من الولاء للقبيلة. هكذا ظهرت ألقاب من نوع الحداد والدباغ والخطاط والورد والنجار، من بين سواها من الألقاب المدينية التي تعكس نظرة دونية إلى ألقاب الصحراء، من نوع غسان وعدنان وقيس، مع أفخاذها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق