شذرات حول ديوانَي الشّاعر الرّاحل "صلاح عبد الحميد أبو صالح"، سخنين.
بقلم: الأستاذ الشّاعر محمود
ريّان.
1. ديوانا الشّعر؛ "عيون الزّهر" و"حقول
العمر" أُنجزا خلال فترة زمنيّة متقاربة. ويوحي ذلك بشكل أو بآخر بأنّ
الشّاعر الرّاحل كان مُصرًّا على إخراج هذا المُنجز والإرث الشّعريّ ليجعل القارئ
يستلهم أفكاره ومشاعره ونظرته الوجوديّة الإنسانيّة، حتّى لا يظلّ يبني قصائده
وينظم معانيه والمتلقّي بعيدٌ عنه. بل ليكون على اهتمام ووعي بهذا الشّعر الّذي
يخرج من القلب تاركًا حُرقة وجذوة لن تخبوَ بسرعة. وما الشّعر الإنسانيّ إلّا أن
يستظلّ الشّاعر بِوجع القصيدة...
2. نجد الشّاعر في ديوانَيْه يضرب على وَتَري أو ثيمتَي
الحُبّ والوطن. وهذا ما نطالعه في عناوين قصائده؛ فهو يعالج موضوعات إنسانيّة
وجدانيّة مُحمّلة برؤية الشّاعر لواقعه ووجوديّته. وهذه بعض عناوين لقصائد من
الدّيوانين.
-
في
"عيون الزّهر": كم أعشقُ السّهر/ عناقُ حُلم / حيثُ يجمعنا المكان/
أجنحة الشّوق/ كلّ الأماكن مُقفرة/ لا تنتظرْ فرحًا/ أتَحِبُّني/ لَملِمْ
جِراحَكَ/ وَلِليرموكِ قصّةٌ.
-
وفي
"حقول العمر": جراحات قديمة/ يحرِقُني الحَنين/ لو عُدتُ طفلًا/ المضيق/
غريبان/ لي حبيب/ حنين/ لِمن تكتُب؟ / لِمن أكتبُ؟ / عيناكِ والأُفق/ اِرتباك/ يا
حبيبي/ خُذني إليك/ لا تبتعدْ...
3. من خلال نظرة عامّة في قصائد الدّيوانَين، نلمس أنّ
الشّاعر قد أرّقه الهمّ الذّاتيّ والإنسانيّ. فالكثير من القصائد تُعدّ وجدانيّة
بامتياز فيها يُعيد نوستالجيا (Nostalgia) الماضي
والشّباب. يتذكّر ليالي الحبّ والنّشوة، ويأسف على زمان مرّ كلمح البصر. فقصائده
الكثيرة صرخات وجدانيّة أو قل نفحات هامسة لا تلبث أن تهبّ حتّى تخبو أصداء عميقة
لأصوات بعيدة، فيها غمغمة وجمجمة. همسات ووشوشات تدغدغ الأذن فتخرّ في الأعماق.
وكأنّي به ينشد واقعًا جديدًا يُرسّخ الحبّ والصّفاء والتّفاني في سبيل الآخر أو
المحبوب؛ الّذي يناجيه أحيانًا بشيء من الحبّ الصّوفيّ الّذي لا يفتر ويتلاشى، بل
المتعبّد بمحرابه. بل يرجو أن تعيش البشريّة جمعاء بحبّ وأمان وسلام. هذه الرّؤية
نتلمّسها من خلال شيوع التّعابير الوجدانيّة والمعاني الرّاقية المبثوثة بين دفّتي
القصائد. ويمكن اِعتبار ذلك تحوّلًا طلائعيًّا رياديًّا عند شاعرنا، نحو ما نسمّيه
المدينة الفاضلة (اليوتوبيا-Utopia). كونه
مسكونًا بالحسّ الوجدانيّ والرّؤى الإنسانيّة العابرة للذاتيّة، بل لربّما كونيّة
جامعة لكلّ ذات تعتورها المحبّة الصّادقة والشّعور الحميميّ الخالص تجاه الآخر...
4. البنية الصّوتيّة للقصائد:
الموسيقى
والصّوت هما أبرز عناصر الشّعر. وارتباط الشّعر قديمًا وحديثًا بالإنشاد والغناء
يؤكّد أهميّة الموسيقى والأصوات في بناء القصيدة. وقد حرص الشّاعر في بعض قصائده
على الوفاء لشعره بحقّه الإيقاعيّ، واستثمر بعضًا من آليّات البديع العربيّ بتنغيم
النّهايات عن طريق ترديد القافية، واستثمار المقابلة في تسريع
الإيقاع، فحينما يتجاور المتقابلان تتسارع وتيرة النّغم، وينسجم المتلقّي لتوافق
توقّعه مع البنية الصّوتيّة. وهذا يظهر في قوله في قصيدة "بين ابتسامة
وحزن"[1]
بينَ ابتسامات الصّباحِ وبينَ أحزانِ المساء
بينَ الرّبيعِ إذا تبسّمَ والصّقيعِ معَ
انطِواء
تَبقينَ دِفئَا في فؤادي ساحرًا يَرجو
الْبقاءْ
وأظلُّ أصدَحُ كالطّيورِ إذا تجلّتْ
لِلضِّياء
****
بينَ الورودِ وبينَ أزهارِ الحدائقِ والحُقول
عَبقُ الطُّيوبِ يَفوحُ لا يرضى غيابًا أو
أُفول
ويظلُّ ثَغرُكِ مَعبَدي فيهِ الصّلاةُ وَكمْ
تَطول
وَيظلُّ حِضْنُكِ مَوْقِدي .. لَحدي إذا
بتُّ القَتيل
يشيع في
القصائد استعمال تفعيلات عروضيّة من بحور مختلفة، أكثرها شيوعًا؛ الكامل والرّمَل
والوافر والمتقارب. كلّها تدلّ على اِهتمام الشّاعر بالتّنويع الصّوتي والإيقاعيّ،
بحيث تلامس أحساسنا وذواتنا قبل عقولنا، وبالتّالي يكشف هذا التردّد الصّوتيّ
الإيقاعيّ عن تنوّع في معانٍ وثيمات ودلالات القصائد.
5. التقنيّات الأسلوبيّة الشّعريّة:
أ. الصّورة الشّعريّة: الصّورة هي إحدى أدوات الشّعر
الأساسيّة الّتي يعتمد عليها الشّاعر في بناء القصيدة، وإبلاغ الرّسالة. فعن طريق
الصّورة يستطيع المبدع نقل مشاعره وأفكاره ورؤاه للكون والحياة والأحياء على نحو
جماليّ يُسهم في مصداقيّة الرّؤية والقصيدة، كما أنّه ينفي عن النصّ الخطابيّة
والمباشرة.
·
تزخر
القصائد بالصّور الشّعريّة الّتي تُقرّب المعنى وتترك عن القارئ أثرًا بإحساسٍ أو
ترقّب، وربّما تثوّر الخيال والمشاعر وإشاعة حسّ المفارقة. وتظهر قدرتها في تجسيد
الحقائق النّفسيّة والشّعوريّة والذّهنيّة الّتي يريد الشّاعر أن يعبّر عنها. ولا
نغلو في أنّ الصّورة الشّعريّة تقوم على التّخييل. فالتّخييل هو الرّكيزة
الأساسيّة الّتي ينهض عليها النّصّ الشّعريّ. وإذا ثمّة من وظيفة أولى يضطّلع بها
التّخييل، ففي أنّه مُنتج للصّورة الموحية. وبقدر ما يكون الشّاعر ماهرًا في
تخييله وتاليًا في إنتاج صوره ذات البعد الإيحائيّ الإبلاغيّ، فبالقدَر نفسه يمكنه
التّأثير على المتلقّي ودفعه إلى الانفعال والتّفاعل.
فإنّ الصّورة الموحية ليست بأقلّ
من جسر يصل الشّاعر بالمتلقّي أو السّامع. ويمكننا الإشارة إلى صور شعريّة عدّة
وظّفها الشّاعر في قصائده، والّتي تحمل دلالات بلاغيّة وحسيّة وفكريّة على حدّ
سواء، فعلى سبيل المثال لا الحصر، (في قصيدة: "لو ينطق البحر"؛ ديوان
عيون الزّهر ص 61) جاء من الصّور: موجي يُداعب سَمْعَكُم/ ترسو على شطآني أنغامُ
المساء/ ضَحكُ الزّوارق وهي تعلو ثمّ تهوي باِنتشاء/ رقصُ السّفائنِ كلّما مَرّتْ
تُقبِّلُهُنَّ أفواهُ المياه ...)
(وفي قصيدة: لا تسأليني؛ ديوان
حقول العُمر ص 52) جاء من الصّور مثل: أنتِ الّتي قد رّتّبتْ فوضى
المشاعرِ
داخلي/ زَرعتْ على أطرافِ قَلبي من مباسِمِ ثغرِها/ من صوتها المُنسابِ كالنّبعِ
المُعمَّدِ بالمطرْ/ تتدلّلينَ وَترتَعينَ كطفلةٍ بينَ الضّلوعْ ...).
ب. تكرار الكلمة أو العبارة: عرفت القصيدة العربيّة
التّكرار منذ أقدم عصورها كوسيلة إيحائيّة، إلّا أنّ التّكرار كما تقول "نازك
الملائكة": "لم يتّخذ شكله الواضح إلّا في عصرنا، وقد جاءت على أبناء
هذا القرن فترة من الزّمن عدّوا خلالها التّكرار في بعض صوره لونًا من ألوان
التّجديد في الشّعر"[2].
والتّكرار في حقيقته إلحاح على
جهة هامّة في النصّ أو العبارة يُعنى بها الشّاعر أكثر من غيرها، فالتّكرار يستصفي
الضّوء ليركّزه على دالّ ما أو عبارة ما يتعلّق اهتمام الشّاعر بها، فالعنصر
المكرّر هو الدّال المسيطر على وجدان الشّاعر.
والتّكرار يأتي بأشكاله الكثيرة،
والغالب هو تكرار البداية أو الصّدارة، وتكرار النّهاية. ويأتي توظيف التّكرار
غالبًا لتأكيد الموضوع الأساسيّ، وكذلك لتبيان الحالة النّفسيّة والوجدانيّة عند
الشّاعر حال كتابة القصيدة.
فقد تُمثّل الكلمة المكرّرة المركز
الدّلاليّ الّذي ينطلق منه الشّاعر ويعود إليه، خالقًا في كلّ مرّة علاقة لغويّة
جديدة أو صورة شعريّة جديدة. وبذلك يكون تكرار الكلمة عند الشّاعر ذا وظيفة
جماليّة؛ لأنّها تقوم بدور المولّد لصوره الشّعريّة، وهي في نفس الوقت الجزء
الثّابت أو العامل المشترك بين مجموعة من الصّور الشّعريّة، فهي تعكس في نفس الوقت
إلحاح الشّاعر على دلالة معيّنة، تختزل موقفه الجماليّ، الّذي نتعرّف عليه من خلال
فهم وظيفة التّشكيل الجماليّ.
والتّكرار أحد الأدوات الجماليّة
الّتي تساعد الشّاعر على تشكيل موقفه وتصويره؛ لأنّ الصّورة الشّعريّة على
أهميّتها ليست العامل الوحيد في هذا التّشكيل.
والحديث عن دور الكلمة لا يعني
فصلها عن سياقها الشّعريّ داخل الصّورة أو داخل القصيدة؛ لأنّ الدّلالة
الشّعريّة تنتج من العلاقة القائمة
بين هذه الكلمة وما بعدها، حيث يتحدّد مجال دلالتها في سياقها بالنّسبة لما قبلها
وما بعدها.
والتّكرار عند الشّاعر صلاح عبد
الحميد كثير، تكرار للكلمة (اسم-فعل – ضمير)، تكرار لعدّة كلمات، ويهمّنا في هذا
السّياق دور الكلمة في هذا البناء. والشّاعر يكرّر كلمة، ويبدأ بصورة جديدة، وقد
يؤكّد أو يكرّر بعض مشتقّات الكلمة للتجنيس والتّوكيد. وسنعرض لنماذج تشمل ذلك
فيما يلي. وهنا نشير إلى دور تكرار الكلمة أو العبارة في بناء الصّورة الشّعريّة، المرتبط
بالضّرورة بالبناء العامّ، أو التّشكيل الجماليّ للقصيدة.
في قصيدته "وبات قلبي
دافئًا"[3] نلمس دور
الكلمة المتكرّرة أو العبارة في بناء الصّورة الشّعريّة حيث يكرّر كلمة دافئًا في
عدّة أشكال (كان دافئًا-كان المساء دافئًا-دافئًا كقلبها-وبات قلبي دافئًا ...
دافئًا كَذاكَ المَساء).
وفي قصيدة "أجنحة
الشّوق"[4] يتكرّر
فيها، (وأنا هنا-وأنا هناك-وأظلّ ما بين الهُنا ... بين الهُناك).
وفي قصيدة "كلّ الأماكن
مقفرة" [5]يتكرّر
(دعْ عنك لومي واقترب-دعْ عنك لومي واقترب).
وفي قصيدة "أكاليل ورد"[6]
تتكرّر عبارة (لا تكملوا ذاكَ المسير) أربع مرّات، في إشارة إلى الرؤية
السّوداويّة القاتمة الّتي تكتنف أحلام الشّاعر. فالعنوان رغم تفاؤله يحمل تضادًّا
دلاليًّا في القصيدة، لأنّه قد لا يكون الورد منتظرًا نهاياتِ انتصار... قد يكون
إكليل وردٍ قد أُعِدّ لراحة الرّمق الأخير...
وفي قصيدة "عيناك
والأفق" [7]نجد
الشّاعر يكرّر (من ذا) يُتبعها بشيء من تمام المعنى؛ مثل: من ذا يُحبّ الغوصَ في
عُمقِ المِحن؟ مَن ذا يُحبّ السّمَّ يسري في دِماهْ؟ مَن ذا يُحبّ الموتَ في
عيْنينِ كاذبتينِ من؟ مَن يا الإله؟... كلّ هذا التّكرار المتضمّن أسئلة بلاغيّة
إنكاريّة تكشف عمق وموتيف دلالة العنوان المركزيّ "عيناكِ والأُفُق"!
وفي قصيدة "حلمٌ يَهذي"[8]
يكرّر الشّاعر كلمة "صِرتِ" في عدّة سياقات، (صِرتِ حُلْمًا حين بان
السّحرُ من ثغرٍ وغنّى-صِرتِ نَهرًا-صِرتِ نجمًا رتّبَ الأفلاكَ عنّا-في سمائي
صِرتِ جنّهْ-كي تَصير السّحْبُ من كفّيْكِ خَجلى). فنلمس الشّاعر في كلّ تكرار
يخلق صورة شعريّة جديدة، وهذا التّرديد يعكس مدى إلحاح الشّاعر على موقفه
الوجدانيّ الّذي يتمنّاه ويحنّ إليه، مع إبراز الشّعور المتفاني بالمحبوبة. وبذا
تتحوّل القصيدة وصفًا لحالة وجدانيّة نفسيّة تُلحّ عليه في الوعي واللّاوعي. كعادة
الرّومانسيّين يشعر بالغربة والنقص الحسّيّ الوجدانيّ، وهنا يلجأ الشّاعر إلى
تعويض حاجاته عن طريق الجريان وراء الحُلم، علّه يحظى بالتحرّر أو الحريّة ليطلق
زفراته وتأوّهاته المكبوتة والّتي لا تبرح روحه، وبالتّالي يُصبح الحلم قريبًا من
التّحقيق أو المعادل الموضوعيّ للشّعور المكبوت في وجدانه، وفق رؤيا الشّاعر
الحسيّة والميتا حسّيّة، أو ما وراء الشّعور الأرضيّ الّذي يطمح أن يصله.
ت. الإسقاط على الواقع، من خلال التّناصّ أو التّضمين.
إنّ التّناصّ الأسطوريّ أو المعاصر
من شأنه أن يفضح ويُعرّي الواقع، ويُعمّق المفارقة، ويكشف مدى قتامة وسوداويّة
الحالة الإنسانيّة المعيشة. وهذا من شأنه أن يرفع من وتيرة الغربة والاِغتراب.
والبَونُ شاسع بين الموجود والمنشود، كلّ هذا من خلال الموتيفات القديمة والمعاصرة
والّتي بدورها تجلو على قدرة النّصّ الحداثيّ على التّواصل بين الشّاعر والقارئ.
وقد ضمّن شاعرنا الرّاحل قصائده
ألفاظًا وموتيفات قديمة، والّتي من شأنها إثارة الحالة الوجوديّة والشّعوريّة
الواقعة على الشّاعر. فعلى سبيل المثال في قصيدة "روما" في ديوان عيون
الزّهر ص 93، يضمّن الشّاعر الألفاظ والأسماء التّاريخيّة مثل: نيرون/ طروادة
الّتي أحرقتها نقمة الإغريق/ هيلانة المَلكة المتيّمة/ سِرجون الأشوريّ...
كذلك نلمس الإسقاط المعاصر في
قصيدة "لليرموك قصّة"، وذِكر مدينة يافا في ديوان "عيون
الزّهر" ص 100.
وفي ديوان "حقول العمر"
يخصّص الشّاعر قصيدة لبلده "سخنين" تحمل عنوان سخنين، ص 73، فيها
يبثّها هواه ومشاعره من خلال تعداد صفاتها، فيهديها عُمره ويُفديها بروحه وضلوعه،
وهل هناك أغلى من الوطن؛ معشوقه الأبديّ الأنطولوجيّ... فنجده يصدح:
" سخنينُ يقتُلني الهوى
وَهواها == قد ردّني حيًّا فَهلْ أنساها؟!
إنّي أُحبّ فكيفَ لي أن أنتقي ==
أخرى لِتحضنني بِعطرِ بَهاها
أهدَيتُها عُمري وروحي طائعًا ==
قلبي وما بينَ الضّلوعِ فِداها".
6. الرّمز-Symbol
الدّيوان؛
عيون الزّهر وحقول العمر تضمّنا إشارات موحية لأمنيات الشّاعر وحياته الوجوديّة.
ولقد جاء العنوانان تفريغًا للحالة الوجدانيّة السّيكولوجيّة، فبثّ فيهما الشّاعر
لواعجه وآماله وآلامه من خلال القصائد.
ومن هنا جاء
العنوان مختزلًا مكثّفًا، ليكاشف المتلقّي ويشاطره نجواه وأشواقه فيما اِعتراه
وخالج نفسيّته في حقول العمر وعيون الزّهر، فتلوّنت سيميائيّة القصيدة وتشكّلت
كخيط مشدود بين وَتري الدّالّ والمدلول.
ومن هنا جاء
الرّمز كاشفًا أبعاد القصيدة وتأويلاتها الممكنة، وموضّحًا رؤيا (Vision) الشّاعر في تحوّلاته الشّاعريّة في ثيمات الحبّ والوطن والإنسان.
والرّؤيا هي خلاصة معرفة الشّاعر وتقييمه لقوله الشّعريّ الكائن في تفكيره وَخَلده،
ولا يمكن توضيحها إلّا باللّغة الشّعريّة، والّتي عنها أي الرّؤيا اِنبرى الشّاعر
في اندفاعه وألبسها عصارة فكره وَحَدسه وهواجسه وتوقّده الوجدانيّ في الوعي
وخارجه... وحسب هذا الرّأي يصبح الشّعر أداة
للمعرفة معبّرة عمّا يستحيل بلوغه
عن طريق العقل ويتجاوز البحر والوزن، بحيث يتيسّر لنا أن نُدخل في دواوين الشّعر
عددًا من الآثار غير المنظومة، وبذلك يتخطّى في منظومه النّظم الّذي يكتفي
باستقامة الوزن وصحّة القافية وسلامة التّركيب.
وبذلك شكّلت القصيدة أيقونة،
ألبسها الشّاعر عصارة روحه وفكره واِنفعالاته ومشاعره الإنسانيّة الوطنيّة الّتي
تدفق علينا من ثنايا الصّور والرّموز. ومن هنا فيمكن اختصار رؤيا الشّاعر، بأنّه
السّعي ليحقّق وجوده ووجدانه، حياته الواقعيّة، وما وراء الواقع ليشكّل أقنومًا
متفرّدًا متميّزًا، يلقي بظلاله على ماهيّة الشّاعر والّتي باعتقاده قد توصله
لحالة أو مرتبة الكَشف (التنبّؤ) والرؤية البهيجة المثاليّة الرّوحيّة حتّى ليكون
شاعرًا وحده متفرّدًا بأدواته الفنّية، متميّزًا إحساسًا وفكرًا، وقادرًا على
اختراق تُخوم يعجز عن بلوغها الآخرون ...
يقول: ت.س.إليوت T.S.Eliot))، "الشّعر لا يُطلق الانفعال ولكنّه هروب من الانفعال؛ لأنّه
ليس تعبيرًا عن الشّخصيّة ولكنّه هروب منها... ويضيف إليوت، ليس للشّاعر شخصيّة
يعبّر عنها، بل لديه أداة خاصّة وهي أداة فقط، وليست شخصيّة تجتمع فيها الانطباعات
والتّجارب بطرق فذّة غير متوقّعة. وقد لا تتّخذ الانطباعات والتّجارب الّتي تعني
الإنسان مكانًا لها في الشّعر، وقد يكون للأخرى الّتي تغدو هامّة في الشّعر دور لا
يُأبه له في الشّخصيّة، والشّاعر لا يسعى أن يقول أشياء هامّة... إنّه يريد أن
يجرّب نشاط أدواته ومهارته في استخدام هذه الأدوات..."[9].
إليوت يفصل بين شخصيّة الشّاعر
وتعبيره، والمعجم الشّعري ذاته يشير إلى الرّمز؛ إنّه إشارة أو علامة (Sign) محسوسة تذكّر بشيء غير حاضر، مثل العَلم رمز الوطن والهلال رمز
الإسلام والصّليب رمز المسيحيّة.
المحلّلون النّفسيّون يَرَون أنّ
وظيفة الرّمز أيصال بعض المفاهيم إلى الوجدان بأسلوب خاصّ، وذلك لاستحالة إيصالها
بالأسلوب المباشر المعروف. ونحن ننكر أن يكون الرّمز تمويهًا للفكرة، بل نعتبر
الرّمز الوسيلة الوحيدة المتيسّرة للإنسان في التّعبير عن واقع اِنغعاليّ شديد
التّعقيد والعاطفة، لا يصلها العقل المنطقيّ في أغوارها، فتتّخذ الرّموز والثّيمات
وسيلة للولوج إلى القلب البشريّ. وهذا يكثر في الأحلام وفي الشّعر.
ميخائيل نعيمة يقول: "الذّات
تتّحد بالواقع من خلال الرّمز. الرّمزيّة تتشبّث بالحاضر والمكان". والشّاعر
"بودلير" جعل الرّمزيّة بمثابة تقديس للمكان والأشياء، وأشار إلى أهميّة
بناء علاقة مؤنسنة مع الأشياء. وعلى رأيه فالشّاعر يسير في غابة من المتناقضات
الّتي تنظر إليه بعيونها..."[10].
وأخيرًا فشاعرنا الرّاحل المقيم
فينا حسًّا ووجدانًا ووجوديًّا، قد لامس كثيرًا ممّا ذكرناه، ويمكن اعتبار الرّمز
عنده شعوريًّا تلقائيًّا يباغتك ويدهشك من خلال القصيدة النّابضة بالشّعور والحبّ
والمكان الوجوديّ الّذي لا يبرح النّص ومتلقّيه فيتشكّل بذوق وثقافة القارئ وهو
يكاشف تضاعيف وشعوريّة القصيدة النّابضة بالوجود والخلجات والزّفرات الدّافئة
الحزينة في الوقت ذاته!...
[1] . صلاح عبد
الحميد، ديوان عيون الزّهر، ط1 (مطبعة كفر قاسم: إصدار منتدى الكلمة-سخنين،
2017)، ص 87.
[9] . انظر: زاهر
الجيزاني. عبد الوهّاب البيّاتي في مرآة الشّرق-الحداثة الشّعريّة، ط1
(بيروت: المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، 1997)، ص 27-28.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق