إن ظاهرة هجرة العقول العبقرية إلى المنافى الاختيارية في عواصم الدول الغربية إنما تشكل إدانة ضمنية مؤلمة لثقافة محلية لا ترقى إلى تكريم أساطينها: حيث يجد العقل الذكي ملاذا له وتربة خصبة لإبداعه في أرض غير أرضه وبين أناس لا يمت لهم بصلة لا عضوية، ولا ثقافية. لقد لاحظ أحد الكتّاب العرب، قوة الإدانة الغربية لثقافتنا بسبب هذا الاغتراب والتشرذم الذي يبتلي به عمالقة الفكر والثقافة والفنون..
حري بالحرف الحر المخلص والكلمة الصادقة أن يوجها عناية الحكومات والمجتمعات إلى حال مؤسفة تعاني منها أغلب المجتمعات العربية سوية مع مجتمعات ما يسمى بـ”العالم الثالث” سابقا، وهي حال تلاشي العقول العبقرية والأذهان الذكية الوقادة التي خدمت، أو تخدم حياتنا الفكرية والثقافية والسياسية وتدورها دون أن تحظى بما يكفي من تقدير المجتمع أو تقييم الدولة لها. لا ريب في أن الأمم الحيوية المتقدمة التي تحترم كينوناتها وتراهن على مستقبلها لا يمكن أن تسمح بمثل هذا الهوان والنكران أن يستمرا، الأمر الذي يفسر حرص الحكومات والأفراد والمؤسسات في مثل هذه الدول المتحضرة على تكريم أساطين الفكر ورموز الثقافة فيها، اعترافا بجميل العبقريات على المجتمع وثقافته، وتشجيعا للمزيد منها على التبرعم والازدهار.
لا تنطبق هذه الظاهرة الحضارية المشحونة بالمعنى على العديد من بلداننا العربية والإسلامية لبالغ الأسف، حيث تذوي العبقريات بصمت، ثم تغادر بلا ضجة بينما تبقى عوائلها ضائعة بين الاستذكارات والحسرات وسوداوية الرؤية التي تنبع من شعور شبانها بأن طريق الثقافة والفكر، إذا ما سلكه المرء، لن يؤدي إلى ما يستحق من تقدير مادي واعتباري، درجة أن بعض أبناء مثل هذه الرموز يعزفون عن تكرار تجربة آبائهم المبرزين، بدليل أن أحدهم حاول في الصبا أن يكتب الشعر، فنهره والده على سلوك هذا المسلك لأن “الشعر لا يصرف في السوق”. ويبدو أن حال الخذلان هذه لا يمكن أن ترد إلى ضعف تقدير المجتمعات العربية نحو العبقريات ورموزها ونتاجاتها الفكرية والثقافية الكبرى، بدليل أن تاريخ الثقافة العربية الإسلامية قد أظهر بأن العرب والمسلمين عامة كانوا من أوائل المجتمعات التي كرمت مفكريها ومثقفيها وعلمائها، متجاوزة بذلك جميع الحضارات العالمية الأخرى على الإطلاق طوال العصر الوسيط. لقد كانت ثقافتنا العربية الإسلامية هي الرائدة في ابتداع ما يسمى بـ”موسوعات الأعلام” بسبب ذلك الاهتمام بالإعلام، الذي توصلت إليه الثقافات الغربية بعد قرون، حيث انتقل كتّاب السيرة وتواريخ ومؤرخو حياة الأعلام من خدمة البلاط فقط إلى الجمهور عامة، متخلين عن حكر التورخة على حياة الملوك والأمراء والقادة العسكريين، إلى كتابة سير العلماء والشعراء وأفذاذ الفلسفة والفقه، من بين سواهم في جميع حقول الثقافة والعلم الرئيسة الأخرى، وبضمنهم حتى الموسيقيين والمثّالين وأصحاب الحرف اليدوية. وللمرء أن يخمن كم هي المسافة الفاصلة بيننا وبين أجدادنا متسعة، وهم هؤلاء الذين اتخذوا من حياة كل واحد من الأعلام نبراسا تربويا للأجيال.
إن العصر المظلم الذي دفعت إليه المجتمعات العربية الإسلامية بعد سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان (1258م) (ونتيجة لتواتر وتتابع الغزوات الأجنبية، تواصلا حتى بداية عصر الإمبراطوريات الأوروبية) قد ترك آثارا سلبية مزمنة في طرائق ومنظورات تعاملنا مع أعمدة ثقافتنا وفكرنا المستنير. هذا، لا ريب، جزء من تركة حقب طويلة من الهيمنة والوصايات الأجنبية التي خصت ثقافتنا وفكرنا بنظرة دونية. أما بعد أن حققت أغلب الدول العربية والإسلامية الاستقلال السياسي، فإن ظاهرة تجاوز العبقريات الفذة، غبنا ونكرانا، مردودة في أنحاء عديدة من عالمنا هذا. ربما يرد تواصلها المؤسف إلى تقديم “رجل السيف” على “رجل القلم” لأسباب مؤقتة، للأسف.
لذا نخدم اليوم “شهود عيان” على هذا الهوان وهذه التركة الثقيلة في دول غالبا ما تتشبث حكوماتها بوراثة العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية. إن البينات والدلائل كافية لإدانة الإهمال الذي خصت به الشواخص الفكرية، ولدينا، في بعض الدول العربية على سبيل المثال لا الحصر، نماذج كثيرة لهذا النوع من تقديم الحال الزائلة على التراثية الثابتة، إذ لفظت عبقريات كبرى أنفاسها الأخيرة دون أن يشار إليها حتى بخبر صغير في الصحف أحيانا، بينما ارتقت أرواح نجوم فكرية لامعة إلى الرفيق الأعلى بعد حياة زاخرة بالفقر والتعفف والحاجة. أما إذا لم يتناغم رجل الفكر مع آيديولوجية الحاكم، فإنه ربما يموت تحت التعذيب أو في السجون، أو ربما يتعرض حتى إلى إسقاط الجنسية، كما حدث لشواخص فكر فذة. لهذا السبب أدار أعمدة الفكر والثقافة في العديد من الأقطار العربية والإسلامية ظهورهم للدولة وللمجتمع، أما عن طريق الاستمتاع بــ”فضائل العزلة”، أو عن طريق البحث عن فضائل “الغربة” عاليا في أبراج عاجية.
إن ظاهرة هجرة العقول العبقرية إلى المنافى الاختيارية في عواصم الدول الغربية إنما تشكل إدانة ضمنية مؤلمة لثقافة محلية لا ترقى إلى تكريم أساطينها: حيث يجد العقل الذكي ملاذا له وتربة خصبة لإبداعه في أرض غير أرضه وبين أناس لا يمت لهم بصلة لا عضوية، ولا ثقافية. لقد لاحظ أحد الكتّاب العرب، قوة الإدانة الغربية لثقافتنا بسبب هذا الاغتراب والتشرذم الذي يبتلي به عمالقة الفكر والثقافة والفنون عبر كتاب مهم صدر عام 1998 تحت عنوان (بلاط الأحلام العربية)، إذ تنهار رؤى الفكر. الطريف هنا هو أن هذا الكتاب قد خدم واحدا من المطبوعات التعريفية الأولية التي تأبطها الصحفيون متابعو الأوضاع العربية من الأميركيين والغربيين، بوصفه عملا يقدم صورة بانورامية مأساوية لـ”اغتراب العقول العربية”: إنها أوديسا جيل منسي، كما يندب ذلك عنوان الكتاب.
حاولت بعض الأنظمة العربية عبر العقود الماضية أن تقدم الدلائل على رعايتها وتكريمها لرموز الفكر والثقافة عن طريق تأسيس الجوائز السنوية والاحتفالات الشكلية، بيد أن هذه الحالة بقيت حبيسة توجهات هذه النظم السياسية وانتقائية القائمين على الجوائز والاحتفالات والتكريمات، لذا ظهرت هذه الجوائز مضمخة بالأيديولوجية الحكومية السائدة وبالانحياز، الأمر الذي زاد من البون بين الرموز الثقافية والفكرية، من ناحية وبين ولاة الأمر، من الناحية الثانية. كما حاولت بعض المؤسسات الحكومية أو الخاصة تكريم مثل هذه الرموز عن طريق إقامة احتفالات شكلية للــ”المكرم” من أجل قراءة بعض “الشهادات” على إنجازاته، لينتهي هذا الإحتفال بـ”درع” الثقافة المصنوع من الخشب أو إلى ميدالية نحاسية توضع على صدر المكرم الذي لا بد وأن يقول في دخيلته: “هل أفنيت حياتي لأمة تريد أن تخلدني بقطعة صغيرة من الخشب المنقوش؟”
إن هذا ليس بخلل اجتماعي أو حكومي أو تنظيمي فحسب، بل هو خلل فكري وسياسي كذلك، ذلك أنه ينطوي على معنى مؤلم يتمثل في غياب الرموز الحضارية والفكرية عن عقل صانع القرار السياسي، إن كان هو قصير النظر. لذا ينبغي أن تلاحظ هذه الظاهرة وتعالج كي يكرم المتبقون الأحياء من شواخص الفكر والثقافة والفنون قبل رحيلهم، وكي يكرم الراحلون منهم كذلك، ذلك أن تكريم الراحلين يشكل أنموذجا للأجيال الصاعدة لترى بوضوح أن العبقريات لا تتبدد على نحو لا مجد.
لا تنطبق هذه الظاهرة الحضارية المشحونة بالمعنى على العديد من بلداننا العربية والإسلامية لبالغ الأسف، حيث تذوي العبقريات بصمت، ثم تغادر بلا ضجة بينما تبقى عوائلها ضائعة بين الاستذكارات والحسرات وسوداوية الرؤية التي تنبع من شعور شبانها بأن طريق الثقافة والفكر، إذا ما سلكه المرء، لن يؤدي إلى ما يستحق من تقدير مادي واعتباري، درجة أن بعض أبناء مثل هذه الرموز يعزفون عن تكرار تجربة آبائهم المبرزين، بدليل أن أحدهم حاول في الصبا أن يكتب الشعر، فنهره والده على سلوك هذا المسلك لأن “الشعر لا يصرف في السوق”. ويبدو أن حال الخذلان هذه لا يمكن أن ترد إلى ضعف تقدير المجتمعات العربية نحو العبقريات ورموزها ونتاجاتها الفكرية والثقافية الكبرى، بدليل أن تاريخ الثقافة العربية الإسلامية قد أظهر بأن العرب والمسلمين عامة كانوا من أوائل المجتمعات التي كرمت مفكريها ومثقفيها وعلمائها، متجاوزة بذلك جميع الحضارات العالمية الأخرى على الإطلاق طوال العصر الوسيط. لقد كانت ثقافتنا العربية الإسلامية هي الرائدة في ابتداع ما يسمى بـ”موسوعات الأعلام” بسبب ذلك الاهتمام بالإعلام، الذي توصلت إليه الثقافات الغربية بعد قرون، حيث انتقل كتّاب السيرة وتواريخ ومؤرخو حياة الأعلام من خدمة البلاط فقط إلى الجمهور عامة، متخلين عن حكر التورخة على حياة الملوك والأمراء والقادة العسكريين، إلى كتابة سير العلماء والشعراء وأفذاذ الفلسفة والفقه، من بين سواهم في جميع حقول الثقافة والعلم الرئيسة الأخرى، وبضمنهم حتى الموسيقيين والمثّالين وأصحاب الحرف اليدوية. وللمرء أن يخمن كم هي المسافة الفاصلة بيننا وبين أجدادنا متسعة، وهم هؤلاء الذين اتخذوا من حياة كل واحد من الأعلام نبراسا تربويا للأجيال.
إن العصر المظلم الذي دفعت إليه المجتمعات العربية الإسلامية بعد سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان (1258م) (ونتيجة لتواتر وتتابع الغزوات الأجنبية، تواصلا حتى بداية عصر الإمبراطوريات الأوروبية) قد ترك آثارا سلبية مزمنة في طرائق ومنظورات تعاملنا مع أعمدة ثقافتنا وفكرنا المستنير. هذا، لا ريب، جزء من تركة حقب طويلة من الهيمنة والوصايات الأجنبية التي خصت ثقافتنا وفكرنا بنظرة دونية. أما بعد أن حققت أغلب الدول العربية والإسلامية الاستقلال السياسي، فإن ظاهرة تجاوز العبقريات الفذة، غبنا ونكرانا، مردودة في أنحاء عديدة من عالمنا هذا. ربما يرد تواصلها المؤسف إلى تقديم “رجل السيف” على “رجل القلم” لأسباب مؤقتة، للأسف.
لذا نخدم اليوم “شهود عيان” على هذا الهوان وهذه التركة الثقيلة في دول غالبا ما تتشبث حكوماتها بوراثة العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية. إن البينات والدلائل كافية لإدانة الإهمال الذي خصت به الشواخص الفكرية، ولدينا، في بعض الدول العربية على سبيل المثال لا الحصر، نماذج كثيرة لهذا النوع من تقديم الحال الزائلة على التراثية الثابتة، إذ لفظت عبقريات كبرى أنفاسها الأخيرة دون أن يشار إليها حتى بخبر صغير في الصحف أحيانا، بينما ارتقت أرواح نجوم فكرية لامعة إلى الرفيق الأعلى بعد حياة زاخرة بالفقر والتعفف والحاجة. أما إذا لم يتناغم رجل الفكر مع آيديولوجية الحاكم، فإنه ربما يموت تحت التعذيب أو في السجون، أو ربما يتعرض حتى إلى إسقاط الجنسية، كما حدث لشواخص فكر فذة. لهذا السبب أدار أعمدة الفكر والثقافة في العديد من الأقطار العربية والإسلامية ظهورهم للدولة وللمجتمع، أما عن طريق الاستمتاع بــ”فضائل العزلة”، أو عن طريق البحث عن فضائل “الغربة” عاليا في أبراج عاجية.
إن ظاهرة هجرة العقول العبقرية إلى المنافى الاختيارية في عواصم الدول الغربية إنما تشكل إدانة ضمنية مؤلمة لثقافة محلية لا ترقى إلى تكريم أساطينها: حيث يجد العقل الذكي ملاذا له وتربة خصبة لإبداعه في أرض غير أرضه وبين أناس لا يمت لهم بصلة لا عضوية، ولا ثقافية. لقد لاحظ أحد الكتّاب العرب، قوة الإدانة الغربية لثقافتنا بسبب هذا الاغتراب والتشرذم الذي يبتلي به عمالقة الفكر والثقافة والفنون عبر كتاب مهم صدر عام 1998 تحت عنوان (بلاط الأحلام العربية)، إذ تنهار رؤى الفكر. الطريف هنا هو أن هذا الكتاب قد خدم واحدا من المطبوعات التعريفية الأولية التي تأبطها الصحفيون متابعو الأوضاع العربية من الأميركيين والغربيين، بوصفه عملا يقدم صورة بانورامية مأساوية لـ”اغتراب العقول العربية”: إنها أوديسا جيل منسي، كما يندب ذلك عنوان الكتاب.
حاولت بعض الأنظمة العربية عبر العقود الماضية أن تقدم الدلائل على رعايتها وتكريمها لرموز الفكر والثقافة عن طريق تأسيس الجوائز السنوية والاحتفالات الشكلية، بيد أن هذه الحالة بقيت حبيسة توجهات هذه النظم السياسية وانتقائية القائمين على الجوائز والاحتفالات والتكريمات، لذا ظهرت هذه الجوائز مضمخة بالأيديولوجية الحكومية السائدة وبالانحياز، الأمر الذي زاد من البون بين الرموز الثقافية والفكرية، من ناحية وبين ولاة الأمر، من الناحية الثانية. كما حاولت بعض المؤسسات الحكومية أو الخاصة تكريم مثل هذه الرموز عن طريق إقامة احتفالات شكلية للــ”المكرم” من أجل قراءة بعض “الشهادات” على إنجازاته، لينتهي هذا الإحتفال بـ”درع” الثقافة المصنوع من الخشب أو إلى ميدالية نحاسية توضع على صدر المكرم الذي لا بد وأن يقول في دخيلته: “هل أفنيت حياتي لأمة تريد أن تخلدني بقطعة صغيرة من الخشب المنقوش؟”
إن هذا ليس بخلل اجتماعي أو حكومي أو تنظيمي فحسب، بل هو خلل فكري وسياسي كذلك، ذلك أنه ينطوي على معنى مؤلم يتمثل في غياب الرموز الحضارية والفكرية عن عقل صانع القرار السياسي، إن كان هو قصير النظر. لذا ينبغي أن تلاحظ هذه الظاهرة وتعالج كي يكرم المتبقون الأحياء من شواخص الفكر والثقافة والفنون قبل رحيلهم، وكي يكرم الراحلون منهم كذلك، ذلك أن تكريم الراحلين يشكل أنموذجا للأجيال الصاعدة لترى بوضوح أن العبقريات لا تتبدد على نحو لا مجد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق