قد تكمن هذه الظاهرة وراء الاعتقاد الشائع بين قطاعات واسعة من الجمهور العربي بأن “الإعلام” إنما هو “الإعلان” نفسه، بمعنى أن الإعلام لا يزيد عن “دعاية” مسلية أو سياسية تهدف إلى التعبئة وإلى ضخ الأموال إلى جيوب مديريها. وبطبيعة الحال فإن هذا مفهوم خاطئ، لأننا إذا ما أردنا للإعلام أن يتقمص دور الإعلان، أو بالعكس، فإننا لا بد وأن ننزلق نحو هاوية صعوبة التفريق بين مجلات الدعاية والمساحيق والزيوت والمنتجات التجارية من ناحية، وبين المجلات الفكرية والثقافية والسياسية الرفيعة الملتزمة، من الناحية الثانية.
يمكن للمرء أن يشخص الحال المركبة في المجال الإعلامي العربي، خاصة بسبب ضعف الفواصل بين الإعلام والإعلان، آخذا بنظر الاعتبار بعض المعطيات والمحكات التي راحت تطفو على شاشات الفضائيات مؤخرا على نحو خاص: فلا يدرك المتلقي، بدقة، ما هو معنى أن تقدم هذه الفضائية أو تلك إعلانا ذا أبعاد سياسية أو آيديولوجية ثم تضيف عليه عبارة: “إعلان مدفوع الثمن”. لا ريب في أن المتابع من الجمهور سيشعر، وهذا ما يراد له على نحو ملتوٍ، بأنه إنما يشاهد إعلانا “يأنف” من غرضه القائمون على تلك الفضائية أو الوسيلة الإعلامية من أغراضه، وإذا لم يكونوا يأنفون منه، فإنهم لا يتفقون مع دلالاته على أقل تقدير. وقد لوحظ تزايد هذه الظاهرة، المثيرة للتندر، خاصة مع الإعلانات التي تطلب بعض الحكومات من الفضائيات أن تقدمها، نشاطا مضادا للإرهاب، أو جهدا من أجل إشاعة روح التسامح والاتساق والتماسك الاجتماعي. بيد أن القائمين على هذه الفضائيات يرومون التوكيد على أنهم ينأون بأنفسهم عن هذا الخطاب وعن الحكومة المعنية بأية طريقة، فكان الخيار الأفضل هو “وصم” هذا الإعلان بأنه “مدفوع الثمن”!
لا بأس في أن لا يتفق مسؤولو الفضائيات المعنية مع هذا الخطاب، ولا بأس في أنهم لا يريدون أن يُحسبوا مع الجهة الدافعة لأجور الإعلان، ولكن السؤال هو: إذا لم تكن متوافقا مع الاثنين، فلماذا إذا توافق على تقديمه للجمهور؟ أو بكلمات أخرى، لماذا توافق على امتطاء “دافع أجور” الإعلان لمحطتك أو لمجلتك من أجل تمرير خطابه أو خططه التعبوية؟ لا بد أن يذهب أمثال هؤلاء إلى الادعاء بأن محطتهم أو مجلتهم إنما تحتاج إلى المال وإلى الارتزاق بالإعلانات من أجل تدوير عجلتها وتوفير أجور العاملين فيها. بيد أن هذا النوع من التبرير هو الذي يعيدنا إلى خط الشروع الأول، وهو: ما معنى عناوين أو شعارات من نوع “الإعلام الملتزم” أو “الإعلام الموجه” الذي يحرص على مصالح الجماهير والذوق العام؟ فإذا لم يكن القيادي الإعلامي متمسكا بمثل هذه الشعارات “المثالية”، لماذا لا يعلن صراحة بأن وسيلته الإعلامية، إنما هي من النوع “التجاري”، ليحل المعضلة، الآن وإلى الأبد.
قد تكمن هذه الظاهرة وراء الاعتقاد الشائع بين قطاعات واسعة من الجمهور العربي بأن “الإعلام” إنما هو “الإعلان” نفسه، بمعنى أن الإعلام لا يزيد عن “دعاية” مسلية أو سياسية تهدف إلى التعبئة وإلى ضخ الأموال إلى جيوب مديريها. وبطبيعة الحال فإن هذا مفهوم خاطئ، لأننا إذا ما أردنا للإعلام أن يتقمص دور الإعلان، أو بالعكس، فإننا لا بد وأن ننزلق نحو هاوية صعوبة التفريق بين مجلات الدعاية والمساحيق والزيوت والمنتجات التجارية من ناحية، وبين المجلات الفكرية والثقافية والسياسية الرفيعة الملتزمة، من الناحية الثانية. هذا تعقيد يستحق الرصد والتحليل.
ولكن علينا الاعتراف بأن هذا الخطأ الشائع بين المتلقين العرب للمادة الإعلامية له ما يبرره، ذلك أنهم يرون في خلاصات الفضائيات أو الصحف نوعا من “الدعاية” لفكرة أو لخط سياسي أو لآيديولوجية معينة، بينما هم يرون ذات الشيء عندما يقرأون دعاية في مقابلة مع فنانة قادرة على عرض محاسنها وعلى قص قصص مغامراتها العاطفية على الجمهور: العملية بالنسبة للمستهلك الإعلامي واحدة، خاصة من ناحية الآليات والنتائج النهائية. لهذا السبب يشيع بين الجمهور العربي اليوم، من المحيط إلى الخليج، أن ما يقرأه هو مجرد “كلام جرايد”، بمعنى كلام “إعلاني” لا يستحق الكثير من الاعتبار: فلا تصدق ما تقوله الصحف، كما اعتادوا أن يقولوا. وعلى المهتمين بعالم الإعلام وزملائهم المهتمين بعالم الإعلان أن يدركوا حجم المعضلة، في العالم العربي خاصة، من أجل سحب خطوط واضحة المعالم بين الإعلام والإعلان، ليس من خلال التنظير والكلام الفضفاض المبثوث على الفضائيات، ولكن من خلال السلوك الإعلامي السوي، المرئي والملموس، عبر صفحات وأواني الإعلام الواقعة تحت إدارتهم.
وما حكم هؤلاء الذين يدعون بأنهم ملتزمون ومحايدون، مسؤولون يحترمون حرفة الإعلام بدقة متناهية، فإن عليهم أن يكونوا انتقائيين حتى في انتخاب أو استلال المواد الإعلانية أو الدعائية التي يقدمونها عبر وسائلهم الإعلامية. وللمرء أن يتذكر أن هناك قطاعات كبيرة جدا من الشباب العربي لا تقرأ ولا تعتبر أية مداخلة فكرية أو سياسية عندما تتابع وسيلة إعلامية ما، لأنها تكتفي بملاحظة إعلانات الكوكا كولا وأنواع الشكولاته والأجبان، باعتبار أنها تعتمد “ثقافة الصورة” ولا تكلف المتابع “عناء” القراءة. في هذه الحال، يكون الإعلان أكثر أهمية، بمعنى أكثر وطأة وتأثيرا، من المواد الإعلامية الجادة والمفيدة و”التعبوية”، كما يقال. لذا فإن عملية انتقاء الإعلان مهمة وحساسة، لأنها لا ترتهن فقط بما يدره الإعلان من موارد مادية حسب.
ربما قد يكون هذا الموضوع مهما للغاية الآن، خاصة عندما نلاحظ أن هناك وسائل إعلام حديثة العهد ظهرت في العالم العربي ثم تحولت إلى إمبراطوريات مال إعلامية. ليس في هذا مبالغة، ذلك أن هناك من هذه الوسائل التي تدفع ملايين الدولارات كل يوم لمئات المراسلين الموجودين في بقاع متباعدة من الصين إلى تشيلي، ومن الآسكا إلى جزر فيجي! هذه الإمبراطوريات الإعلامية العربية الغنية لا تحتاج إلى بضعة دولارات تقدمها شركات تجارية لا يهمها سوى تسويق منتجاتها بغض النظر عن آثار ذلك. إن هذا النوع من الإمبراطوريات الإعلامية لا يتوقف عن العمل والدوران عندما يمتنع عن نشر إعلان تافه أو سيء الآثار، ذلك أنها إمبراطوريات بمعنى الكلمة، لها أباطرة وجيوش من الفنيين، معاهدة تدريبية ومراكز ثقافية، زيادة على الصلات والخيوط السياسية الرابطة مع جهات معينة غير المرئية، وهكذا دواليك. لماذا، إذا، تعمد مثل هذه الإمبراطوريات إلى توظيف الإعلان؟
نشهد اليوم عبر العالم العربي ولادة إمبراطوريات إعلام، بنفس السرعة التي نشهد فيها تفتح عشرات كليات وأقسام الإعلام في جامعاتنا العربية التي تخرج، بالجملة، مئات “الإعلاميين” غير القادرين على تحرير خبر أو تحليل حادثة، ومع هذا التطور “الانفجاري” في هذا الحقل، الجديد نسبيا، نبقى عاجزين عن تجسيد الخط الفاصل بين الدعاية والإعلام على نحو لا يقبل الغموض.
لا بأس في أن لا يتفق مسؤولو الفضائيات المعنية مع هذا الخطاب، ولا بأس في أنهم لا يريدون أن يُحسبوا مع الجهة الدافعة لأجور الإعلان، ولكن السؤال هو: إذا لم تكن متوافقا مع الاثنين، فلماذا إذا توافق على تقديمه للجمهور؟ أو بكلمات أخرى، لماذا توافق على امتطاء “دافع أجور” الإعلان لمحطتك أو لمجلتك من أجل تمرير خطابه أو خططه التعبوية؟ لا بد أن يذهب أمثال هؤلاء إلى الادعاء بأن محطتهم أو مجلتهم إنما تحتاج إلى المال وإلى الارتزاق بالإعلانات من أجل تدوير عجلتها وتوفير أجور العاملين فيها. بيد أن هذا النوع من التبرير هو الذي يعيدنا إلى خط الشروع الأول، وهو: ما معنى عناوين أو شعارات من نوع “الإعلام الملتزم” أو “الإعلام الموجه” الذي يحرص على مصالح الجماهير والذوق العام؟ فإذا لم يكن القيادي الإعلامي متمسكا بمثل هذه الشعارات “المثالية”، لماذا لا يعلن صراحة بأن وسيلته الإعلامية، إنما هي من النوع “التجاري”، ليحل المعضلة، الآن وإلى الأبد.
قد تكمن هذه الظاهرة وراء الاعتقاد الشائع بين قطاعات واسعة من الجمهور العربي بأن “الإعلام” إنما هو “الإعلان” نفسه، بمعنى أن الإعلام لا يزيد عن “دعاية” مسلية أو سياسية تهدف إلى التعبئة وإلى ضخ الأموال إلى جيوب مديريها. وبطبيعة الحال فإن هذا مفهوم خاطئ، لأننا إذا ما أردنا للإعلام أن يتقمص دور الإعلان، أو بالعكس، فإننا لا بد وأن ننزلق نحو هاوية صعوبة التفريق بين مجلات الدعاية والمساحيق والزيوت والمنتجات التجارية من ناحية، وبين المجلات الفكرية والثقافية والسياسية الرفيعة الملتزمة، من الناحية الثانية. هذا تعقيد يستحق الرصد والتحليل.
ولكن علينا الاعتراف بأن هذا الخطأ الشائع بين المتلقين العرب للمادة الإعلامية له ما يبرره، ذلك أنهم يرون في خلاصات الفضائيات أو الصحف نوعا من “الدعاية” لفكرة أو لخط سياسي أو لآيديولوجية معينة، بينما هم يرون ذات الشيء عندما يقرأون دعاية في مقابلة مع فنانة قادرة على عرض محاسنها وعلى قص قصص مغامراتها العاطفية على الجمهور: العملية بالنسبة للمستهلك الإعلامي واحدة، خاصة من ناحية الآليات والنتائج النهائية. لهذا السبب يشيع بين الجمهور العربي اليوم، من المحيط إلى الخليج، أن ما يقرأه هو مجرد “كلام جرايد”، بمعنى كلام “إعلاني” لا يستحق الكثير من الاعتبار: فلا تصدق ما تقوله الصحف، كما اعتادوا أن يقولوا. وعلى المهتمين بعالم الإعلام وزملائهم المهتمين بعالم الإعلان أن يدركوا حجم المعضلة، في العالم العربي خاصة، من أجل سحب خطوط واضحة المعالم بين الإعلام والإعلان، ليس من خلال التنظير والكلام الفضفاض المبثوث على الفضائيات، ولكن من خلال السلوك الإعلامي السوي، المرئي والملموس، عبر صفحات وأواني الإعلام الواقعة تحت إدارتهم.
وما حكم هؤلاء الذين يدعون بأنهم ملتزمون ومحايدون، مسؤولون يحترمون حرفة الإعلام بدقة متناهية، فإن عليهم أن يكونوا انتقائيين حتى في انتخاب أو استلال المواد الإعلانية أو الدعائية التي يقدمونها عبر وسائلهم الإعلامية. وللمرء أن يتذكر أن هناك قطاعات كبيرة جدا من الشباب العربي لا تقرأ ولا تعتبر أية مداخلة فكرية أو سياسية عندما تتابع وسيلة إعلامية ما، لأنها تكتفي بملاحظة إعلانات الكوكا كولا وأنواع الشكولاته والأجبان، باعتبار أنها تعتمد “ثقافة الصورة” ولا تكلف المتابع “عناء” القراءة. في هذه الحال، يكون الإعلان أكثر أهمية، بمعنى أكثر وطأة وتأثيرا، من المواد الإعلامية الجادة والمفيدة و”التعبوية”، كما يقال. لذا فإن عملية انتقاء الإعلان مهمة وحساسة، لأنها لا ترتهن فقط بما يدره الإعلان من موارد مادية حسب.
ربما قد يكون هذا الموضوع مهما للغاية الآن، خاصة عندما نلاحظ أن هناك وسائل إعلام حديثة العهد ظهرت في العالم العربي ثم تحولت إلى إمبراطوريات مال إعلامية. ليس في هذا مبالغة، ذلك أن هناك من هذه الوسائل التي تدفع ملايين الدولارات كل يوم لمئات المراسلين الموجودين في بقاع متباعدة من الصين إلى تشيلي، ومن الآسكا إلى جزر فيجي! هذه الإمبراطوريات الإعلامية العربية الغنية لا تحتاج إلى بضعة دولارات تقدمها شركات تجارية لا يهمها سوى تسويق منتجاتها بغض النظر عن آثار ذلك. إن هذا النوع من الإمبراطوريات الإعلامية لا يتوقف عن العمل والدوران عندما يمتنع عن نشر إعلان تافه أو سيء الآثار، ذلك أنها إمبراطوريات بمعنى الكلمة، لها أباطرة وجيوش من الفنيين، معاهدة تدريبية ومراكز ثقافية، زيادة على الصلات والخيوط السياسية الرابطة مع جهات معينة غير المرئية، وهكذا دواليك. لماذا، إذا، تعمد مثل هذه الإمبراطوريات إلى توظيف الإعلان؟
نشهد اليوم عبر العالم العربي ولادة إمبراطوريات إعلام، بنفس السرعة التي نشهد فيها تفتح عشرات كليات وأقسام الإعلام في جامعاتنا العربية التي تخرج، بالجملة، مئات “الإعلاميين” غير القادرين على تحرير خبر أو تحليل حادثة، ومع هذا التطور “الانفجاري” في هذا الحقل، الجديد نسبيا، نبقى عاجزين عن تجسيد الخط الفاصل بين الدعاية والإعلام على نحو لا يقبل الغموض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق