الخميس، 22 يونيو 2017

تَجلّيات الاغترابِ في رِواية "جِدار في بيت القاطرات" للكاتب الفلسطيني : مصطفى عبد الفتاح




صدور رواية "جدار في بيت القاطرات" للكاتب مصطفى عبد الفتاح 






                                                                                                 بسام عرار
                                                                                                جامعة النجاح _نابلس




       * إنّ َالواقعَ المَعيشَ الذي سايرهُ الفلسطينيونَ منذُ نكبة عام 48 ، جعلَ منَ الأدب ِ، شعرِه ونثرِه ، خيرَمرآة ٍ تصفُ الواقعَ الفلسطينيّ َ، مبرّزةً آهمّ َالأحداثِ المفصليةِ والمرحلية، في حياةِ الفلسطينيينَ من شتاتٍ ومُصادرةٍ وقتْلٍ واغتراب .

* إنّ َالمُنجَزَ الروائي الفلسطيني - سواءً أفي أرض ِالشّتاتِ كان ، أم ْ في الأرض المُحتلة - يتحدثُ عن قضيةِ الأرضِ الفلسطينية ، فروايةُ الشتات ِتُمثلُ حنين َالفلسطيني ِّ لأ َرضِه ، التي اقتُلعَ منها ، وتتحدث عن الماضي الجميل ، أما رِوايةُ الأرضِ المُحتلّة ؛ فتدعو الفلسطينيينَ إلى الثبات ِفي الأرض ، والتمسك بها رغمَ المُحاولاتِ لثنيِهم ْعن ذلك (1).     

مدخل إلى رواية " جدار في بيت القطارات "

تتحدثُ الرواية ُعن واقع ِالعربِ الفلسطينيينَ الذينَ لمْ يخرجوا من أرضِهم عام 48 ، فهم يقفونَ موقفَ صراع ٍ ضدّ المُحتلّ الصهيوني نتيجة َبقائِهم ، وصراعٍ آخرَ نتيجة َحُصولِهم على بطاقاتٍ تسمحُ لهم بالعيش ِفي أرضِهم ، إلى جانبِ المحتل الإسرائيلي ، وتتحدث أيضا عن الإنسانية التى يتحلى بها الفلسطيني تجاه الآخر ِ، مقابل العنصرية والنظرة الدونية ، فالفلسطيني ّ ُورغمَ كلّ الظروف يتمتعُ بِحس إنسانيّ يصلُ إلى أرقى مُستوى من مستويات الإنسانية ، وتتحدث الرواية ُ ايضًا عن حيْرة الفلسطيني الذي يُمثلُه البطل ناصر حِيال َاغْترابه في وطنه ِ، وعدمِ انسجامِه مع َالطرفِ الآخر ِرغم المُحاولاتِ الحثيثة ِ، المدفوعة بالإنسانيةِ، والمُعاملة الطيبة ، ما أدى إلى نفوره ِواغترابه وعزلتِه.

الاغتراب
وردَ في المُعجم الوسيط أنّ (اغتربَ فُلان ، أيْ نُفيَ ونزحَ عن وطنِه ، واغترب فُلان ، تزوجَ من غير الأقارب). (2) (والغريب ؛ هوَ الرجلُ الذي ليس َمن القوم) (3) يُعرّفُ الاغتراب ُعلى أنّهُ الحالةُ السيكو اجتماعية المُسيطرة بشكلٍ تام على الفرد حيثُ تحولُهُ إلى شخصٍ غريب ، وبعيد عن بعض النواحي الاجتماعية في واقعِه بحيث تسيطرُ فكرةُ الاغتراب في الوقت الراهن على تاريخ ِالفكرِ الاجتماعي والادبِ المُعاصر حيثُ خمن َ "ملفن سيمن " أهمية هذا الأمر للتحليل الاجتماعي عن طريق مقالة تم نشرُها في المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع ، تحت عنوان "" حول معنى الاغتراب "" أما البروفيسور" آرنست" فقد تطرقَ خلال دراستِهِ الفكرَ الاجتماعي ، الى التركيزعلى الاغتراب في كتابِه "" تساؤلات عن المُجتمع المحلي "" .(4)

      


الأبعاد ُالأساسية للاغتراب:

أولا :- بعد حسي - وهنا يكون الصراعُ معَ قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية في سبيل تحديد موقف تاريخي من كل ما يحدثُ حولَه.
ثانيا :- بُعد إقليمي - وهنا يبحثُ الفرد ُعن عالمِ المُثل "" العالم المفقود "" بعد َأن سحقَ العالمُ الذي يعيشُ فيه شخصيتَهُ وشوّهَها ، وهُنا ينطلِقُ إلى عالمِ الخيال .
ثالثا:- بعد ميتافيزيقي - حينَ يُديرُ الفردُ ظهرَهُ للواقع المُحيطِ به مُتجها إلى عالم ِالماورائيات ، في مُحاولة لمعرفة الحقيقة الفعلية ، وإدراكها لِوجوده (5) .

 من مَفاهم ِالاغتراب المُختلفة التي تم الاعتماد عليها في المقالة :

أولا :-حالة العجز ، وهو حسب المفهوم الهيجلي الماركسي بِمعنى انّ الإنسان تسيطرُ عليه مخلوقاتُه بدلًا مِنْ أن يُسيطرَ عليها فلا يتمكن من تقريرِ مصيره أو ِالتأثير في مجرى الأحداث الكُبرى .
ثانيًا :- تفكك القيم والمعايير الاجتماعية حسب المفهوم الدركهيمي ، بحيث لا يتمكن ُمنَ السيطرةِ على السلوك الإنساني وضبطِه ،وتصبحُ القيمُ والمعاييرُ فاقدةً سيطرتَها على الإنسان ِوتصرّفاتِه .
ثالثا :- اللا معنى - ويشددُ على الفراغِ الهائلِ الذي يحسُّ بهِ الإنسان ُنتيجةَ عدم ِوجود أهداف أساسية ٍتُعطي معنى لحياته ، وتحددُ اتجاهاتِه وتستقطبُ نساطاتِه .
رابعا :- العُزلة واللا انتماء ، وهنا يكونُ المُغتربُ في حالةٍ لا يشعرُ فيها بالانتماء إلى المُجتمعِ والأمة ِ،فالعلاقاتُ الشخصيةُ غيْرُ ثابتة وغيْرُ مُرضيةٍ ، ويصبحُ الإنسان ُيرى نفسَهُ مفصولاً بعد أن كانَ مُنتميًا لِأسرة او حزب او جهة في الماضي .
خامسا :- النفورُ من الذات، فالانسانُ لا يستمدُّ العزاءَ والرضى والمُواساةِ ، ولا يكتفي بنشاطاتِه نتيجة فُقدان ِالصلة بالذات ، فيصبحُ مع الزمن مجموعة من السلع والأدوار والأقنعة ولا يتمكن من أن يكون َنفسَهُ إلا في حالات ٍنادرة (6). وجاء َفي الرواية ( والشيء الوحيد ُالذي لا يتحرك هو القطار ، وهذا خِداع ووهم ، لأن كلَّ شئ ٍخارج القطار من حولك ثابت والمُتحرك الوحيد ُهوَ القطار) (7).هُنا إحالة ٌلِقلبِ الواقع وعدم انسجام مع الحقيقة ، حيثُ أصبحَ القطارُ مصدرَ خداعٍ للبطل ناصِر ،فثبتَ القطارُ المتحرك وتحرّكتِ الجمادات والموجوداتُ من حول القطار, من شجر وحجر وغيره مما أشبه .وهذه المُفارقةُ توقفُ البطلَ موقفَ الحائر.
        
وَجاءَ في الروايةِ عن اليهوديّ القاطن في الجوار الذي يتحكمُ بالضوءِ والهواء ِ(هذه العلاقات الاجتماعية تخضعُ للوضعِ السياسي العام كَما يخضعُ الإنسان ُلِحالة الطقسِ المُتقلب) (8)، وهُنا حالةٌ من خضوعِ الفلسطيني"" ناصر"" للقوانين الاجتماعية وحالة العجز ، وقد سيطرت عليه القوانين بدلاً من أن يُسيطرَ عليها ، وتكمن سيطرتها بأنها وصلت إلى أنْ تُشبهَ الشتاء َالذي يُجبرُ الناسَ على اختيارِ الملابسِ الشتائية ، وتراوضه كي يستسلم ولا تسمح له بان يغيير في مجريات الأحداث .
       
جاءَ في الروايةِ خوفُ البطل ِ"ناصر"وقلقُه منَ الأحداث التي تضخمُ صورةَ المُحتل(هذا الإرثُ الضخمُ من الحكاياتِ والأحاديث والأحداثُ التي يحملُها في تفكيره عن صورة ِالغريب الأقوى ، هذا ما بجعلُ خوفَهُ وقلقَه منَ المجهول هوَ سيدَ الأحكام) (9). وهنا يتجلى اغتراب ناصر بخوفه وقلقِه ، فهما عاملانِ اساسيّانِ في تحديدِ عجزهِ وعدمِ انسجامه، وشيئانِ يؤثرانِ على قوتِه فيُضعفانِه ، فتقريرُ مصيره مرتبط ٌبحالة القوة التي ارتسمت في ذهنه عن الآخر.
       
(همسَ لِنفسِه وهو ما يزالُ يجيلُ النظرَ في زوايا الغرفة الصغيرة الغريبة الشكل مثل غربته، قدري أن أسكنَ هذه الغُرقة) (10).وفي ذلك إشارة مُباشرة من الكاتب دالّةٌ على اغتراب البطل، فهو مغترب عن المكان ، حتى أصبحَ يرى نفسه مفصولاً ومستقلاً ، فيلجأ إلى خطاب الذات ، وهذا الخطاب يكون في العزلة غالبا, بفعل الضجر من الواقع والشعور باللاانتماء ، فلا يتمتعُ البطلُ بعلاقات شخصية ثابتة ومُرضية ، فهو مَحوطٌ بالآخرين َووحيدٌ بينهم .
      (ماذا تريدُ أنْ تدرس يا ناصر ؟ علوم اجتماعية . وأنت؟ رائع . أنا سنة ثانية قانون موضوع جميل ومهم ). (11) هنا تتجلى حالةُ ُالسيطرةِ اللا مُباشرةِ وفرض الوقائع ، ناصر سيدرسُ العلوم الاجتماعية التي تتفقُ وحالتَه كإنسان يسعى وراء َمجتمعه في تقييم الواقع المعيش والوصول إلى أرقى درجات الإنسانية ، والقانون مُناسب لشخصية رامي الغريب عن الأرض ، والمحتل لها فهو بحاجة لأنْ يُعبّأَ َبالقانون ، ليفرضَ آراء َهُ ووجهاتِ نظره ، فالقانون رمزٌ للسيطرة واحتواءِ الشعوب ، والوقوع تحت السيطرة شكل جليٌّ من أشكال الاغتراب_ كما تقدم _وناصر هنا؛ هو من وقعَ تحتَ السيطرة ، فلا أهدافَ تعطي معنىً لحياتِه في ظلِّ سطوةِ القانون .
         بدا ناصر غيرَ مُنسجمٍ معَ اللغة العبرية بدايةَ الأمر(لغةٌ صعبة وغير مفهومة) (12).فهي لغة لا يحققُ ذاته ومُبتغاه بها لعدم تأقلمه معها .

       (كان ناصر يفتقر للثقة بالنفس التي كانَ يتمتّعُ بها زملاؤه،اليهود ، شعر حيالَهم بالقلقِ الوجوديّ ، إنهم يعرفونَ كلّ َصغيرة وكبيرة ويتصرفونَ بثقة على أنهم أصحاب ُ المكانِ ومُهيئون تماما للعيش الجامعي). (13). تكمن حالة العجز حسب المفهوم الهيجلي الماركسي بمعنى أن الإنسان "ناصر" تسيطرُ عليه الأشياء ُمن حوله ولا يسيطر عليها فلا يتمكن من تقرير مصيرِه ، فهو غير قادر على التحلي بِالثّقة بِالنفس ، نتيجةَ القلقِ الوجودي وعدم استمداد الرضى من واقعه الذي يعيشُه و يحياه (يشعر ُأنه لا يستطيع ُالتأقلمَ معَ الحاضر فيستمرّ ُمتعلقًا بالماضي). (14).

       (اعتادَ ناصِر أنْ يُرفهَ عن نفسه حينَ يشعرُ انهُ تعِبَ أو مل ّمن الدراسة بالخروج للتنزه في حديقة الجامعة ، يقطعها ذهاباً وإيابًا ). (15), إن الطبيعةَ هي ملاذُ الهاربِ من همومه وضنكه فهي مصدرُ سعادةٍ وتحقيق ِانسجامٍ واتزانٍ للذات ، فَناصر هنا يكافِئُ نفسَهُ بشيءٍ يتجلى معَه وفيه ، ألا وهو السير في أحضانِ الطبيعة .

      إن مِنْ أشكالِ الاغترابِ العزلةَ واللا انتماء حسبَ ما تقدّم وبذلك يتجلى شعور البطل بذلك ، فالطبيعةُ هي مصدرُ السعادة ، وغيرُها نقيضُ ذلك .

      (حالا يا والدي سيصلُ نورُه إلى جميع أنحاءِ القرية ) (16).هنا يبدأ البطل برحلة البحثِ عن النور، وهو نورُ الحرية ومواجهةِ العنصرية كي يهدمَ جدارَ العزلة والتمييز ، فهو نورُ الماضي الجميل الذي تسللَ إلى ذاكرته بعد َأن تذكّرَ والدَهُ ، فحركةُ الرجوع بالذاكرة إلى الماضي شئ ٌ من هروب الذات . والسؤال يُثار .. هروبٌ من ماذا ؟؟ هروب من الواقع ِ المُسيطرِ عليه ِ، فهو يجدُ في الماضي وصفحاتِ الذاكرة ِنورًا يُضيءُ له عتمةَ اغترابِه .

     (انتفضَ ناصر كالملدوغ حين َاكتشفَ هذا النقص غير ِالمقصود ، عرفَ أنَّ عليهِ أن يعودَ فورًا ، الى ذاته وإلى لُغته أياً كانتِ الظروف ُ) (17) ، إنّ من أشكالِ الاغتراب النفور من الذات وعدم الرضا عنها ، نتيجته َ عدم وجود أهداف شخصية فاللغة الأم هي الشئ ُ المقدسُ والهويةُ التي تثبت وجود صاحبِها أينما حل وارتحل ، والنقصُ الذي شعرَ به البطلُ هو نقصٌ في إثباتِ وجوده ويترتب على ذلك الضعفُ والشيئية ُالمكتسبة ، وهذا تجلٍّ واضحٌ للاغتراب في الرواية .

      (نظرَ إلى الأفقِ اللا مُتناهي، نظرَ إلى مدينة ٍ يشعرُ أنهُ يعرفُها منذُ مئاتِ السنينَ ، برغمِ أنه لم تطأْها قدمُه أبداً ، بدأ يشعرُ أنهُ وللمرةِ الاولى ليس َغريباً عن المكان ،بل هوَ صاحبُ المكانِ والزمان ).(18).
ربما أرادَ الكاتبُ أنْ يقول : إنَّ الغريبَ لا يكونُ غريباً اذا كانَ بينَ أبناءِ جلدتِه ، وبين أبناءِ ملّتِه ،وفي ذلكَ دعوةٌ لهدمِ كل جدران الفصل والتمييز، حتى لو تغيّرَ المكانُ والزمان ، فغزةُ ليست غريبة عن ناصر ولا هو غريبٌ عنها ، إذْ إنّه سرعانَ ما اشتمَّ عبيرَها حينَ اقترب منها . شعرَ بأنّهُ جزءٌ من المكان وكأنه مسقط رأسِه ، فهو صاحبُ المكان والزمان حِيالَ شعورهِ بالأمن والأمان ِ فيه ، وهنا تتلاشى مظاهرُ العزلة واللا انتماء واللا معنى ، فالبطلُ " ناصر" - بعد زيارة غزة - لا يرى نفسهُ مفصولاً عنها وعن قاطِنيها، فحركة البطلِ في بيت القاطرات ِ، وإصراره على الذهاب إلى مدينة غزة، وسرعة اختمار ِالفكرة في رأسِه ؛ تكَوّنَ لديهِ معنى الانتماء للمدينة ، فغزة بعد الزيارة؛ هدمت جدار الاغتراب من نفسيته  بعد أن عانى منه في بيت القاطرات.  
                                                  
                                                                                                                    
                                                                                                           








المصادر والمراجع :

1_ينظر / نضال الصالح / قضية الأرض في الرواية الفلسطينية ص49 /من منشورات اتحاد الكتاب العرب .
2_ مجمع اللغة العربية / المعجم الوسيط /ط5/مكتبةالشروق الدولية /يناير 2011مص670 ع1
3_المصدر السابق ص670 ع3
4_ينظر مفهوم الاغتراب
mawdoo.com > تاريخ الالتقاء 3/6/2017 .
5_المصدر السابق
6_ينظر .. بسام فرنجية / الاغتراب في الرواية الفلسطينية /مؤسسة الأبحاث العربية بيروت ص27+ص28+ص29.
7_مصطفى عبد الفتاح / جدار في بيت القاطرات/ مؤسسة الأفق للثقافة والفنون ص85.
8_ المصدر السابق ص86+ص87
9_ المصدر السابق ص91
10_المصدر السابق ص93
11_المصدر السابق ص94
12_ المصدر السابق ص95
13_المصدر السابق ص95
14_المصدر السابق ص101
15_المصدر السابق ص100
16_المصدر السابق ص115
17_المصدر السابق ص146
18_المصدر السابق ص174


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق