لمرء أن يلاحظ تخلف “علم اللغة” في عالم اللغة العربية في سياق الصراع بين الفصحى والعاميات أو الدارجات، خاصة وأن تقدم العلوم اللسانية قد بلغ شوطاً من التقدم أنه راح يدرس على نحو علمي شديد التعقيد، كما هو في اللهجات العامية المنبثقة من “الألسن” الأوروبية الرئيسة كالألمانية والإنجليزية والفرنسية، ناهيك عن تعقيدات صوتياتها، من بين سواها من اللغات الأكثر إنتشاراً عبر العالم.”
ـــــــــــــــــــــــــ
لا يختلف المختصون على أن الدراسات اللغوية الخاصة بلغتنا العربية العظيمة تعاني من النكوص والتأخر، مقارنة بـ”اللسانيات” الخاصة باللغات الأوروبية على سبيل المثال لا الحصر. وإذا كان بعض المختصين باللغات الأوروبية من الأساتذة العرب قد حاولوا تطبيق معارفهم “اللسانية” على العربية وقواعد نحوها، فإن المؤكد هو أنهم قد وجدوا أنفسهم فجأة في وسط “ميدان رمي” بالرصاص الحي بين فريقين متحاربين من المحافظين العرب الذين لا يسمحون بأي تنازل أو تفاهم مع الجديد والشجاع في علم اللغة. هذان الفريقان معروفان، وهما: أتباع مدرسة الكوفة، وأتباع مدرسة البصرة! المدرستان اللتان كان مدرسنا في الثانوية يعرب كل جملة حسب واحدة منهن بطريقة، قائلاً: كما قال أهل البصرة، أو كما قال أهل الكوفة!
ألاحظ أن هذا الصراع “الألسني” بين المحافظين (كوفيين وبصريين) وبين المجددين مهم في عصرنا الجاري بقدر تعلق الأمر بمستقبل اللغة العربية، خاصة بعد الإعلان قبل بضعة اشهرعن “جائزة الشيخ محمد بن راشد للغة العربية”. لذا أجد من المناسب أن ألاحظ ضرورة العناية القصوى بالفصحى وبحمايتها من الإنزلاق في غياهب العاميات واللهجات الدارجة التي لا يمكن أن تسبر أغوارها، كما حدث للغتنا، ولما وصلنا منها من التراث الأندلسي على سبيل المثال، حيث أن المرء يحتاج لمترجم من “فاس” أو “مكناس” كي يفهم النصوص الأدبية المتأخرة، أي بعد مغادرة “إبن زيدون” وصاحبته، الولاّدة بنت المستكفي إلى الأبد.
وللمرء أن يلاحظ تخلف “علم اللغة” في عالم اللغة العربية في سياق الصراع بين الفصحى والعاميات أو الدارجات، خاصة وأن تقدم العلوم اللسانية قد بلغ شوطاً من التقدم أنه راح يدرس على نحو علمي شديد التعقيد، كما هو في اللهجات العامية المنبثقة من “الألسن” الأوروبية الرئيسة كالألمانية والإنجليزية والفرنسية، ناهيك عن تعقيدات صوتياتها، من بين سواها من اللغات الأكثر انتشاراً عبر العالم. ودليل ما اذهب إليه في هذا السياق المهم هو ظهور فرع من المدرسة البنيوية لــ”علم اللغة” البنيوية، يركز فقط على اللهجات والعاميات والدارجات، أسباب ظهورها وحواضنها الإجتماعية والجغرافية، منبثقاً مما يسمى بـ”حركة الإستعمال” في علم اللغة Usage Movement، بمعنى “اللغة المستعملة” على نحو يومي، كما هي منطوقة بالضبط في مكالماتنا الهاتفية ومحادثاتنا صباحاً على مائدة الفطور.
إن ما يحاول المختصون بعلم اللهجات Dialectology معرفته هو: كيف تختلف “عربية” بغداد عن العربية المستعملة في بيروت؛ وما هي أوجه الإلتقاء بين عربية مسقط وبين العربية التي يستخدمها أبناء البصرة أو الجزائر أو تونس، وهكذا. أذكر مرة أن طالبات خليجيات يدرسن في الأردن لم يتمالكن أنفسهن، فضحكن عندما سألت البائع في المتجر: “أكو قهوة؟” بدلاً عن أن أقول “في عندك قهوة؟” وقد فاتهن بأن لفظ “أكو” إنما هو من بقايا اللغات الرافدينية القديمة، كالسومرية والأكدية.
وإذا كنت منذ طفولتي أسأل المرحومة والدتي بعد مشاهدة اي فيلم مصري: ماما، ما معنى “نابك على شونة”؟ أو ما معنى “بردو” و “مزنوق” أو “تنّيل” أو “فهلوة”، إلخ، فإن الإجابات كانت دائماً أكثر غموضاً: ان علم اللهجات مهم، ليس لأنه يكرس المسافات الفاصلة بين مايقوله أهل الصعيد وما يقوله أهل الإسكندرية، بل لأنه يرمي إلى تتبع جذور الإختلاف عن العربية الأم، اي عربية قس بن ساعدة وعربية المتنبي وطه حسين والجواهري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق