لم أفقه أهمية “ثقافة الأطفال” قط، إلا عندما كنت أدرس للدكتوراه خارج العراق، إذ إني كنت سعيدا للغاية باكتساب ولديَّ اللغة الإنجليزية بسرعة من خلال مدرستهما واختلاطهما بأقرانهما، ولكن سعادتي هذه سرعان ما ذوت، مصطدمة بملاحظتي ابتداءهما فقدان المهارات اللغوية العربية (أي اللغة الأم)، فقلقت كثيرا، متأرقا.
وإذا كنت قد تنبهت لهذا الخطر مبكرا (والحمد لله)، فقد رحت أسأل زملاء لي حول هذه المعضلة غير المتوقعة، نظرا لحرصي على اكتسابهما مهارات اللغة العربية الأم. وإذا كان هناك من الأصدقاء قد أوصاني باستعمال أشرطة حلقات “افتح يا سمسم” الكويتية، فإني قد بذلت جهدا كبيرا للظفر بها وبما يوازيها من أشرطة “ثقافة الطفل العربي”، من نوع “الآنسة قواعد”. وهنا، لاحظت الخلل الخطير في ثقافتنا العربية المعاصرة متجسدا في إهمالها لثقافة الأطفال. وقد كانت من النتائج “الكارثية” لهذا النكوص في الثقافة العربية، هي: (1) اعتماد الأطفال العرب (من المحيط إلى الخليج) على المستورد من منتجات ثقافة الأطفال وتقلص العاملين فيه؛ (2) ضمور الاختصاص بثقافة الأطفال، درجة عده حقلا غير مهما، باعتبار من يعمل فيه شخصا يفكر بعقل طفل (غير ناضج). وهذه من هنات ثقافتنا العربية المعاصرة الخطيرة. وقد لاحظت كذلك أن الاهتمام بثقافة الأطفال يزداد ويزدهر تحت ظل الأنظمة الحكومية الأكثر “مركزية إعلامية”، كما كانت عليه الحال في مصر الرئيس الراحل عبدالناصر، وفي العراق قبل الغزو الأميركي. بل إن هذا ما أدى إلى توجه القطاع الخاص إلى حقول أخرى، أدنى أهمية، نظرا لاعتماده حسابات الربح والخسارة، للأسف.
زد على كل ما تقدم، النظرة الدونية العامة لثقافة الأطفال باعتبار أن من يهتم بها لم يزل محتفظا “بعقل طفل”، وليس بعقل بالغ وناضج. وهذه من أخطر الآفات التي تهدد ثقافة الطفل العربي، أي النظرة الدونية لكل من يهتم بثقافة الأطفال، بوصفها فرعا ثقافيا تنقصه الجدية والسخونة الكافية.
وعلى العكس مما تقدم، تشكل دول حضارية متقدمة كاليابان والولايات المتحدة والصين ودول أوروبا نماذج تستحق الرصد والملاحظة في اهتمامها بثقافة الطفل، درجة فرز الأموال الكافية لرعايتها، ناهيك عن القضاء على المفاهيم الخاطئة من النوع الذي يفيد بأن ثقافة الأطفال لا تتطلب الاختصاص والتفرغ لها، كما يعتقد الكثيرون، خطأ.
إن ثقافة الأطفال تتطلب كوادر متخصصة، بل وبدرجة رفيعة من التخصص الذي يمكنها من الفوز بشعراء مختصين بكتابة أناشيد الأطفال وأهزوجاتهم، وفئة مختصة كذلك بتأليف قصص الأطفال وبإنتاج الأفلام التي تستقطب عقل الطفل وتغازل مزاجه من أجل تمرير الدروس الأخلاقية والسلوكية الصحيحة، ناهيك عن الحاجة الماسة لصحافة المهتمة بعقل الطفل بطريقة “الحبوب المغطاة بطبقة من السكر”، على أمل رؤية أجيال محبة وعاملة وبنّاءة وجادة، قادرة على الاضطلاع برؤى المستقبل المشرق، بعونه تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق