”.. إن جميع تواريخ الأمم (والعربية الإسلامية منها) لا بد أن تتجنب جوانب من قصص التاريخ لأنها ضارة بالعقول الشابة اليافعة، أكثر من كونها مفيدة أو حاثّة على الإبداع والإيجابية. وتنطبق هذه الحال على جميع التواريخ عبر العالم: فالتاريخ هو ليس “مرآة الماضي” حقا، ولا هو “سجل” لأحداث الماضي فقط، ولو أنه كان كذلك لتحول التاريخ إلى أداة إحباط ونكوص ورجوعية.”
غالبا ما كان أساتذة التاريخ الذين درّسونا في المدارس الثانوية، وفيما بعدها، يتبرمون احتجاجا ونقدا لمؤلفي كتب التاريخ المنهجية المعتمدة، وغالبا ما كان نقدهم ينصب على أن التواريخ التي كانت بين أيدينا إنما كانت غير كاملة، وكانت مجتزأة، لأن منها، لكونها من “المحرمات” على الأجيال الناشئة، خشية ما قد تؤول إليه الانقسام السياسي والتشرذم الطائفي، ناهيك عن سواها من الأسباب التي عنت بـــ”التربية” الحقة قبل كل اعتبار.
وعند استعادة تلك الأيام والتجارب، يشعر المرء بضرورات عدم تضمين التواريخ (المدرسية خاصة) مواد سالبة ومحبطة تساعد على التشرذم. إلا أن هذا الاتجاه التربوي المفيد كثيرا ما كان يقع في أفخاخ الابتسار والتركيز على غير المهم وغير الفاعل، باتجاه التافه والساذج في القراءات التاريخية. حتى أن كتاب (المدخل إلى التاريخ العربي الإسلامي) الذي درسناه في الصفوف الخامسة الأدبية بمرحلة الثانوية قد سقط في تفاهات من نوع كيف كان خلفاء بنو العباس يتناولون غذاءهم بصحون وملاعق من فضة وذهب، وكيف كانت أشجار قصر الحيرة بسامراء مزودة بطيور اصطناعية تصدح بأصوات موسيقية كلما هبت نسمة ريح أثناء تناول هؤلاء الخلفاء وجباتهم، ناهيك عن امتداح القيان والجواري، المغنيات والعازفين، وعن سرد نوادر الظرفاء في قصور الخلافة.
كنا طلابا شبانا، متحمسين لمعرفة الدفين أو الممنوع من تواريخنا: نعم كانت هناك ثمة إشارات عابرة للثورات التي حدثت ضد عهود الخلفاء، إلا أنها لم تكن لتشبع تعطشنا لكل ما هو “ثوري” و”غير تقليدي” من جوانب هذه التواريخ حينذاك. لذا، لم يحترم مؤرخو هذه الكتب ثورات شعبية ذات طبيعة عادلة من نوع “ثورة الزنج” في البصرة وثورات المتمردين ضد السلطة جنوب العراق وعبر الخليج العربي، بوصفها جوانب لا تزيد التلميذ اعتزازا وتمسكا بتاريخه. لذا، كان مدرس التاريخ (واسمه نافع) يسخر من صفحات رفاه الخلفاء وقصورهم وحاشيتهم، بتكرار مقولته: “إذا كان هذا هو المدخل إلى التاريخ العربي الإسلامي، فالله أعلم كيف سيكون “المخرج”؟! وكنا، تلاميذ، نضحك كثير لمثل هذه التعليقات الساخرة.
أما حقيقة الحال، فإن جميع تواريخ الأمم (والعربية الإسلامية منها) لا بد أن تتجنب جوانب من قصص التاريخ لأنها ضارة بالعقول الشابة اليافعة، أكثر من كونها مفيدة أو حاثّة على الإبداع والإيجابية. وتنطبق هذه الحال على جميع التواريخ عبر العالم: فالتاريخ هو ليس “مرآة الماضي” حقا، ولا هو “سجل” لأحداث الماضي فقط، ولو أنه كان كذلك لتحول التاريخ إلى أداة إحباط ونكوص ورجوعية.
بل إن أكثر ما يخشاه المؤرخ اليوم، إنما يكمن في انتشاء أشكال التعصب، السياسية، والطائفية، والمناطقية، الأمر الذي يجعل من كتابة التاريخ على نحو محايد لا تشوبه شائبة مما ذكرنا في أعلاه من تعصب، أقول يجعلها من أصعب المهمات التي لا ينبغي لجاهل أو أعمى بالتعصب والضغائن أن يعبث بها. ولك الله، يا تاريخ العرب، مذ نشأت حتى شخت في عصرنا الجاري هذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق