أن يحيا المرء في أميركا فعليًّا، فلا يمكن له إلا أن يصطدم بجدار الانعزالية، أو الانفصالية، إن شئت. لم تزل آثار هذا الميل للانعزال قوية عند الأميركان، بغض النظر عمّا نلاحظه في التعامل مع بعضهم من ترحيب وحب اطلاع: إلا أن هذا كله لا يزيد عن غطاء اجتماعي خارجي سميك يلف في دواخله نزوعًا مبالغًا به للانفصال عن الآخرين بوصفه علامة تميزهم عن سواهم.
عندما كتب الشاعر الأميركي روبرت فروست Frost قصيدته الذائعة الصيت، الموسومة إدامة جدار Mending Wall في بداية القرن الزائل، فإنه أراد أن يرمز بها لميول الذهنية الأميركية إلى الانعزالية Isolationism . وقد ترافق هذا الميول الجارف مع كل ما هو أميركي من أدنى أشكال الوجود الاجتماعي، إلى سياسة الولايات المتحدة على المستويين العالمي والإقليمي.
وبفضل الانعزالية الأميركية عن “العالم القديم” بسبب محيطين عملاقين، الأطلسي والهادي، تمسكت أميركا بفكرة الانعزال، بما تنطوي عليه من إيجابيات وسلبيات، تأسيسًا على التشبث بفكرة “العالم الجديد”، حتى أقحمتها اليابان في الحرب العالمية الثانية يوم قصفت الطائرات اليابانية قاعدة “بيرل هاربر”، إذ وجد الرئيس الأميركي آنذاك (روزفلت) نفسه مضطرًّا لدخول الحرب مع “الحلفاء” ضد “المحور”، الألماني، الإيطالي، الياباني. وبإسقاط قنبلتين ذريتين على مدينتي “هيروشيما” و”ناجازاكي”، اضطر إمبراطور اليابان إعلان الاستسلام أمام أميركا، على مضض، خشية المزيد من القنابل الفتاكة من النوع أعلاه.
أما أن يحيا المرء في أميركا فعليًّا، فلا يمكن له إلا أن يصطدم بجدار الانعزالية، أو الانفصالية، إن شئت. لم تزل آثار هذا الميل للانعزال قوية عند الأميركان، بغض النظر عمّا نلاحظه في التعامل مع بعضهم من ترحيب وحب اطلاع: إلا أن هذا كله لا يزيد عن غطاء اجتماعي خارجي سميك يلف في دواخله نزوعًا مبالغًا به للانفصال عن الآخرين بوصفه علامة تميزهم عن سواهم. ودلائل الميل للانفصال في المجتمع الأميركي يمكن أن تصل حدًّا يستفزنا نحن الشرقيين، نظرًا لما تعودنا عليه من حب الاختلاط والاطلاع والتعاشر والتضامن المجتمعي.
في أميركا، ليس لك أن تستغرب نزولك للسكن في بيت جديد تبتاعه، دون سؤال من جارك عنك أو حتى، دون تحية خفيفة من نوع “مرحبا” عندما يلاقيك على باب المنزل صباح كل يوم! على عكسنا نحن في الشرق العربي الإسلامي، إذ نعمد إلى تحضير وجبة غذاء سمينة لجارنا الجديد، كناية عن ترحيبنا به وتقديرنا لمتاعبه في عملية “الانتقال” للبيت الجديد.
وعلى عكس تقاليدنا الأكثر ميلًا للاختلاط ونبذ الانعزال، يمكن لأي فرد في أميركا أن يشتكي عليك إن زاد اقترابك منه في أي طابور على ثلاثة أقدام، مثلًا! بغض النظر إن كان ذلك الشخص طفلًا أم امرأة، رجلًا أم معاقًا أشيب، بدعوى تجاوزك على “مجاله الشخصي” personal space!
يستحضر المرء هذه الملاحظات عن “الانعزالية الأميركية” على سبيل إلقاء الضوء على أول الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، والتي استقبلت بحفاوة شعبية ملحوظة، على عكس ما نتوقع عامة.
تفاجأت، أنا شخصيًّا، بأعداد المؤيدين لقرارات ترامب “الانعزالية” العديدة قبل بضعة أيام، خاصة وأن هذه الاستجابات الإيجابية تعكس رواسب قديمة متبقية في دواخل النفس الأميركية المائلة للانعزال.
ولا ريب، في أن قرار الرئيس الجديد منع أو التشديد على دخول المسلمين القادمين من عدد محدد من الدول العربية والإسلامية، بدعوى “أن لدينا ما يكفي من الإشكالات”، لقبول دخول من يمكن أن يكونوا “إرهابيين”، كما قال ذلك في مقابلته مع شبكة ABC يوم 25 يناير 2017. أما إعلانه، الأول من نوعه في تاريخ الأميركيتين، وهو بناء جدار عالٍ يفصل الولايات المتحدة الأميركية عن الولايات المتحدة المكسيكية، على أن تتحمل الأخيرة نفقات بنائه، فإنه لا شك، يستبق أزمة بين “واشنطن” و”مكسيكو”، أزمة راحت علامات تعقيدها تسطع من الآن، خاصة عبر الحرب الكلامية التي شنها الرئيس المكسيكي ضد الجدار العازل المتوقع، بوصفه نوعًا من الانعزالية “المشينة” في عالم يندفع نحو الاختلاط والتداخل، بفضل “العولمة” وأفكارها وتطبيقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق