أ.د. محمد الدعمي
حوالي نهاية ستينيات القرن الماضي، لم تكن في العراق أكثر من أربع جامعات رئيسة، في بغداد والبصرة والموصل. أما الآن، فهناك حوالي ثلاثين جامعة، زيادة على عشرات الكليات والمعاهد التي أسست من قبل القطاعين العام والخاص لاحتواء الأعداد الكبيرة من خريجي الثانويات والأفراد الطموحين للتخصص في حقول لم تكن معدلات درجاتهم العامة عندما أكملوا الثانويات تؤهلهم لدراستها. وهكذا حرف مفهوم “دمقرطة” التعليم العالي عبر أغلب دول الإقليم على نحو سلبي لأن التوجه صار كميًّا وليس نوعيًّا، خاصة وأن الحكومات عدت التنمية والتقدم مسألة “أرقام” صماء فقط، أرقام تشبه الأرقام التي أربكت الطفلة “سسي جيوب”، “الفتاة رقم عشرين” في رواية ديكنز (الأوقات الصعبة). صار المهم عند المسؤولين عن نظم التربية والتعليم العالي هو الكم وليس النوع بقدر تعلق الأمر بالبرامج التعليمية في دول الإقليم، وهي حال قادت إلى تدهور مخيف بمستويات المؤسسات التربوية والجامعية الناشئة التي كلفت حكومات دول الإقليم أثمانًا باهظة. بالنسبة لتربويين على معرفة دقيقة بمعطيات التردي، لم يبلغ مستوى خريجي أغلب الجامعات والكليات والمعاهد الخاصة التي أنشئت بالجملة فيما بعد مستوى خريجي الثانويات في العقود الوسطى من القرن الماضي، أي مستوى هؤلاء الذين اجتازوا الامتحانات العامة فقط قبلئذ. هكذا صارت الشهادات الجامعية ديكورًا يشكل عبئًا حقًّا على دوائر الدولة التي توجب عليها الاضطلاع بتوظيف أصحابها.
ونظرًا لعده المؤشر الأدق للتقدم في أجواء التنافس الإقليمي والحرب الباردة بين بعض حكومات الشرق الأوسط، دل هذا الافتتان القصير النظر والخاطئ بالكمية على حساب النوعية، خاصة بقدر تعلق الأمر بالبنى الأكاديمية التحتية (البنايات والمكتبات والمختبرات والحواسيب والكوادر المختصة) على أنه ليس عائقًا بسبب إمكانية شراء هذه البنى بالمال، وبسبب توفر الأخير. ثمة مشاريع تربوية وأكاديمية هائلة لم تكن أكثر من “قفزات في الظلام” لأنها هدرت الكثير من الأموال، بلا مخرجات مضمونة بقدر تعلق الأمر بتأهيل الموارد البشرية. وقد جسدت النتيجة “إخفاق رؤيا” مريرًا بالنسبة لحكام هذه الدول لأنهم أمروا بتمويل هذه البرامج التربوية بالجملة، معتقدين أن النقد يمكن أن يبتاع الاستنارة. وكنتيجة محققة، داومت الصفوف الدراسية على إنتاج خريجين غير كفوئين، بينما بقيت القطاعات الاقتصادية الحيوية تستورد الخبراء والمهندسين والأطباء والعمالة الماهرة، بل وغير الماهرة من دول أخرى في ذات الوقت الذي تحولت صفوف الدراسة المحلية فيه إلى مجرد “علب سردين” عمليًّا، حيث احتشد الطلاب وقوفًا وجلوسًا في الصفوف الصباحية والمسائية، متأهبين جميعًا لاقتناص الدرجات العلمية في سبيل التعيين في دوائر الدولة والإفادة من “مأدبة البترودولار” السخية. وقد اعتمدت هذه الأرقام الفلكية المهولة من الطلاب لتحقيق الطفرة التربوية “النوعية” على معلمين منهكين استحالوا إلى “مكائن” تدريس بالمعنى الحرفي، بالرغم من تسميتهم “أساتذة”، تعسفًا. تحول هؤلاء “الأساتذة إلى أجهزة تسجيل تكرر ذات الصيغ والكلمات من صف دراسي “للإنتاج الواسع” لآخر بضمن عجلة تراجع أكاديمية شريرة متواصلة الدوران قوامها التعليم والتربية المزيفة. كان يتوجب على هؤلاء “المعلمين” تكويم أكبر قدر ممكن من النقد في سبيل البقاء وتجاوز نسب التضخم العالية التي ابتليت بها أكثر اقتصادات دول الإقليم. أما مشاريع هؤلاء “المعلمين” فلم تكن ذات صلة بالبحث العلمي أو بالتطوير التربوي، ولكنها كانت ذات صلة مباشرة بتكوين وزيادة رأس المال الخاص لأنها كانت مرآة لتوثبهم إلى تحقيق “النقلة الاجتماعية”، لو استعرنا اصطلاحًا دقيقًا من علم الاجتماع. لذا تبلور المستوى الهابط للبحث العلمي في جامعات الإقليم: فلم يعد الابتكار أو البحث عن الأصالة بالنسبة لهؤلاء الباحثين سوى خطوات من أجل بلوغ أهداف أخرى لا تمت بصلة للمعايير العلمية والأكاديمية الحقة قط.
عن صحيفة الوطن العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق