أ.د. محمد الدعمي:
اشتهر “حلَّاق بغداد” في الفن الأوبرالي الأوروبي الحديث باسم “عبد الحسن علي بن بكّار”، وهو الحلَّاق الذي اشتهر بقدرته على جعل الشبان يبدون بدرجة من الوسامة أنهم يسحرون الصبايا ويسلبوهن لبابهن، كما قدمه بيتر كوميليو Comelius في العمل الأوبرالي الألماني Der Barbier von Baghdad في الأسطر أدناه سأوظف حكاية حلَّاق بغداد بمعنى مختلف ولغرض محوّر مقارنة بغرضي.
وكما هي الحال مع حكاية “حرامي بغداد”، لا بُدَّ لحكاية “حلَّاق بغداد” أن تجد لها جذورًا في بغداد العصر الوسيط، عاصمة الإمبراطورية العباسية التي تستذكر اليوم كمدينة غنية احتضنت موزائيكَ مبهرًا من الأقوام، ومن جميع أصحاب الحرف والاختصاصات؛ أي هؤلاء المشتغلون الذين جيء بهم أصلًا، من جهات الأرض الأربع لبناء “المدينة المدورة”، بغداد. علمًا أنه حتى هذه اللحظة، غالبًا ما يتم التندر ببعض الحلَّاقين في بغداد نظرًا لأن أغلبهم فضوليون ومهذارون، يقحمون أنفسهم في مشاكل سواهم، خصوصًا عندما يستغرقون في لغوهم حد الخروج على أصول المهنة، بل وأحيانًا حد فقدانهم القدرة على التركيز على صنعتهم. بَيْد أن الأكثر خطورة من الحلَّاقين في نظر الوسيمين من الشبان البغاددة، وهو الحلَّاق المتدرب المبتدئ في المهنة الذي يحتاج لزمن طويل للتدريب الكافي للوقت لاكتساب المهارات الأساس لقص الشعر وتصفيفه، وهي حال تجعل هذا المتدرب بحاجة لعدد من “الرؤوس” الكثة كي يطبق عليها مهاراته الأساس. يستمر هذا التطبيق المختل لعدة أشهر، مستهلكًا أكثر ما يمكن من “رؤوس الضحايا” حتى يتمكن ذلك الحلَّاق المبتدئ أن يجيد صنعته. لذا، كان من المهم للبغدادي المحترم الذي يهتم بهندامه وبذائقة الناظرين إليه أن يتأكد من أن الحلَّاق الذي يسلم رأسه له ليقص شعره ليس بمتدرب؛ كي لا يستغرقه الفضول والكلام حتى يخرب رأسه.
تنطبق حال “حلَّاق بغداد” هذه بشكل دراماتيكي على الحكومات التي تعاقبت على الحكم في بعض دول الشرق الأوسط الفتية طول الفترة الماضية. إذا ما ارتجع المرء إلى ما سُمي بمرحلة التنظيمات Tanzimat 3 (1839-79) في التاريخ الحديث، فإنه لا يمكن أن يفلت من ملاحظة القلق الذي انتاب النخبة الفكرية التقليدية المثقفة، خصوصًا المتأثرة بأوروبا حيث أكدت، بعد أن ورثت طرائق الحكم التقليدية القديمة على المستويين العسكري والمدني، على الإصلاحات، أو “التنظيمات” من أجل إزالة الأطر والسياقات الإدارية الوسيطة للحكم لاستبدالها بأطر وسياقات أوروبية حديثة مستوردة. ولكن بالنسبة لإمبراطورية قديمة، بدا هذا التحديث مشروعًا واعدًا يتطلب، ليس فقط التخلص من الذهنية الإدارية العتيقة مع كل ممارساتها التقليدية، ولكنه يتطلب كذلك موقفًا شجاعًا جديدًا يفترض أن يختبر ويقيّم السياقات والتعليمات السابقة، خصوصًا تلك المفروضة من الأعلى على الولايات البعيدة عن العاصمة، وهو موقف لا يمكن إلا أن يتسبب “بصدام ولاءات” بين مؤيدي القديم وبين الإصلاحيين التقدميين.
ونظرًا لأن هذا الصدام، بين القديم والجديد، متوقع في كل ارتطام بين جيلين يمثلان تقليدين متناقضين، فإن الخلاصة تستقر على صيغة توفيقية مؤسسة على التسامح، قوامها التنازلات، بعضها من الصيغ التقليدية القديمة (المستوحاة من التعليمات المتوارثة السابقة التي يفترض اعتمادها الشريعة الإسلامية)، وبعضها الآخر من الصيغ الأوروبية الوافدة (ذات الصفة العلمانية الغربية). أما النتيجة النهائية الأخرى، وكما هو متوقع، فقد تبلورت في ظهور فجوة يصعب ردمها تمتد بين الطبقة الإدارية البيروقراطية التقليدية، وبين عامة الشعب العصية على الاستجابة والإذعان، خصوصًا عبر أقاليم الشرق الأوسط: أي عندما يخدم المرء موظفًا في الحكومة، فإنه غالبًا ما يعزل ويسقط في فخ الاغتراب في دواخل إنائه الاجتماعي.
وعلى سبيل استذكار فرضيتي حول النقلة التاريخية التي عاشتها الثقافات الشرق أوسطية، من مرحلة الإبداع البغدادية (العباسية) الوسيطة إلى مرحلة المحاكاة التالية، للمرء أن يباشر إصلاحات “التنظيمات”، سوية مع الإصلاحات التي قام بها محمد علي باشا في مصر كمؤشرات إضافية على إخفاق النزوع الإبداعي والابتكاري الأصيل. وهكذا، خسر إقليمنا المجاور لأوروبا مباشرةً، المبادرة الثقافية، فغدا مجرد “مستلم” مؤنث سكوني ومستكين لما يأتي إليه من “الذكورية” الأوروبية العدائية. والطريف هنا يكمن في أن الإصلاحات أعلاه أسهمت في تكوين نخبة من التكنوقراط المحليين في الولايات المترامية، وهي نخبة خدمت القوى الأوروبية الوافدة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، بدلًا عن حفظ الولاء للسلطة القديمة، ناهيك عن تمزق هذه النخبة بين ولاءين وذهنيتين، أي بين الأطر الإدارية التقليدية المتلاشية، وبين الأطر الأوروبية الحديثة الوافدة. لقد تسامحت الإدارات الكولونيالية الأوروبية مع بعض معطيات الذهنية الإدارية التقليدية المترسبة السابقة بهدف تيسير إدارة الولايات العربية المنفصلة عن الأستانة عبر الشرق الأوسط. وقد برهن الاعتماد الأوروبي على الطواقم الإدارية العثمانية السابقة على إشكاليته في الدول ذات الأغلبية السكانية الشيعية كالعراق. علمًا أن ذلك لم يحدث ذلك في سوريا ولبنان لأن الفئات المجتمعية الفاعلة حافظت على نفوذها عبر النقلة المؤلمة، من الإدارة العثمانية إلى الإدارات الأوروبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق