عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة؛ صدر كتاب « الدين والتراث والهوية » / توثيق مائة عام من المعارك الفكرية في مصر. للمفكر والكاتب الصحفي "محمود سلطان". الكتاب يقع في 500 صفحة من القطع الكبير، ويتضمن سبعة فصول رئيسة بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة والوثائق. وهو جهد أربع سنوات من البحث الدؤوب والتجول في أمهات الكتب والوثائق النادرة فيما حاول المؤلف أن يدعم ما استخلصه فيه من نتائج بما يشبه التحقيقات الميدانية من مصادرها التي عايشها. يعتبر الكتاب رصدًا تحليليًا للمعارك التي خاضها المثقفون المصريون حول "هوية مصر" على مدى مائة عام مضت، لدلالتها السياسية المهمة والماسَّة بصلب قوام الهوية المصرية الأساسي، إذ تعتبر تراثًا من الخبرة يتيح للباحث المدقق استخلاص آليات المثقفين المصريين في توريث قضاياهم للأجيال اللاحقة منهم من جهة، واستشراف أدواتهم في الدفاع والدعاية لتلك القضايا من جهة أخرى، فضلاً عن عقد مقارنة بين طرق الجماعات الثقافية المتباينة والمتناقضة، وتتبع الأهداف السياسية التي جاءت هذه المعارك الثقافية للتخديم عليها، بالإضافة إلى حصر عمليات التزوير في النصوص التي استقطعها مثقفون كبار من أمهات كتب التراث، ثم الإحالة إليها. كذلك توثيق عدد من الحقائق التي عمدت تيارات ثقافية مصرية إلى جمعها وإخفائها أو إتلافها، أملاً في اصطياد الأجيال الجديدة والتدليس عليها، وهو ما حمل المؤلف على جمع الوثائق التي أرَّخت للمعارك الثقافية الكبرى مثل: الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبد الرازق عام 1952، وفي الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين عام 1962، والفن القصصي في القرآن الكريم للدكتور محمد أحمد خلف الله عام 1964، وأصوات المد في التجويد القرآني لتغريد عنبر عام 1965، والإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية ( ومجموعة أخرى من الأبحاث) للدكتور نصر حامد أبو زيد عام (1992 ـ 1995)، ووليمة لإعشاب البحر للروائي السوري حيدر حيدر عام 2000م. بالإضافة إلى تحليل مضمون هذه الوثائق، من خلال استعراض السياق العام لتلك المعارك، التي كانت تعتمد على "أنساق سلوكية" تكاد تكون متشابهة، وهي نتيجة من شأن تأملها والتدقيق فيها أن تكسبنا خبرة أو حساسية خاصة، تثري القدرة على استشراف السيناريوهات المتوقعة حال وقوع معارك مشابهة في المستقبل. حيث شهدت مصر العديد من المعارك الفكرية الكُبرى، اتشحت بوشاح ثقافي حينًا، وبمظاهر أكاديمية حينًا آخر، اشتبك فيها الطرفان: قُوى تشعر بالتهديد في هويتها العربية/ الإسلامية وتتشكك في الجهود الماسَّة بأصولها، وأخرى ترى ضرورة إخضاع التراث الذي تستقي منه الهوية الوطنية مشروعيتها لمناهج النقد الغربية... وهناك العديد من التجارب شهدتها الخبرة الثقافية المصرية الحديثة، تضع الكثير من علامات الاستفهام حول قدرة المال الأجنبي على "استغفال" المثقف واستدراجه، ولعلنا نتذكر كيف قبل د. طه حسين رئاسة تحرير مجلة "الكاتب المصري" التي تأسست عام 1946 بتمويل يهودي، بل إن هذه الظاهرة انخرط فيها بعض مجموعات النفوذ بالمؤسسات التربوية المصرية، ففي عام 1954 أصدرت مؤسسة "فرانكلين" الأمريكية سلسلة عنوانها "كيف نفهم الأطفال"، وكانت موجهة إلى الآباء والمدرسين حسب ما هو مبيَّن على غلاف كل عدد، تضمنت توصيات وتعاليم وطرائق لكيفية تقبل الأطفال ممارسة الشذوذ والإباحية والحرية الجنسية، على أنها أمور طبيعية، ونال العدد الأول الذي تضمَّن هذه "السموم الأمريكية حظًا كبيرًا من الرواج، حتى أنه أُعيد طبعه مرةً أخرى في أكتوبر عام 1955، وقدَّم لها المستشار الفني لوزارة التربية والتعليم في ذلك الوقت، الدكتور عبد العزيز القوصي. ما يريد المؤلف قوله في هذا الكتاب؛ أن ما يُثار من قضايا فكرية أو ثقافية من حينٍ إلى آخر؛ هي في واقع الحال سليلة أهداف وغايات سياسية، ومن ثم فإن التعاطي مع تلك القضايا، يقتضي استحضار المشهد السياسي من جهة، واللحظة التاريخية الحاضنة له من جهة أخرى. وأن التعاطي مع بعض المفاهيم، مثل : الحضارة والنهضة والتنوير وحقوق الإنسان حقوق المرأة أو حريتها، قد تبدو للبعض محض اشتباك فكري بريء من أية غايات سياسية، وقد يراها البعض الآخر ترفًا لا طائل من ورائه، وأن المثقفين ينبغي لهم أن ينشغلوا بالبحث عن أزمات المجتمع الحقيقية، مثل الإدمان والبطالة والعنف وأزمة الإسكان والأُمية وما شابه... وواقع الحال أن الأزمات الأخيرة وغيرها من أزمات هي نتاج مشروع سياسي قائم، يستند إلى فلسفة فكرية وثقافية، تستقي قوامها من المنظور الغربي لعدد من المفاهيم، ومن ثم فإن مناقشة هذه المفاهيم، هي في واقع الحال قراءة لصلب العقيدة السياسية التي تتبنى هذه المفاهيم، والتي أفرزت في النهاية الأزمات التي تواجهها الأُمة حاليًا. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق