في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها ماجد بن
الأمين بن صالح صدقة الصباحي (هيلل بن بنيميم بن شلح صدقه هصفري، ١٩٣٩، في الأصل ١٩٤٠- ، من مثقّفي حولون، معلم
للعربية، رجل
أعمال، ينشر ما تخطّه يده من خيرة الأدب السامري) بالعبرية على
مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقّحها، اعتنى
بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٢-١٢٤٣، ١٦ تموز ٢٠١٧، ص.
٥٤-٥٧.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون
جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع
أبجديات:
العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم
بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ
العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات
أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية
والإسبانية)
بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩،
وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة
الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات
السامرية، في شتّى أرجاء العالم.
هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر
بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن،
الشقيقَين،
الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي
المرحوم راضي (رتسون)
صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
صور سامريين ذوي ذقون
أُنظر جيّدًا إلى هذه الصُّور، صور أجدادنا التي التقطت
لأجل دائرة المعارف اليهودية الصادرة في نهاية القرن التاسع عشر. وانظر إلى هذه
الصور التي صوّرها في عيد الفسح عام ١٩١٤ وأثناء حج تلك السنة مصوِّرون من المستعمرة
الأمريكية في القدس؛ ألقِ نظرة هنا على
صور التقطها مصوِّرون ألمان في عيد فسح العام ١٩٣٤ وحتّى صور سامريين نُشرت
في نطاق بحث أنثروبولوجي في أيار ١٩٣٣.
يا تُرى، ما الأمر الأوّل الذي يسترعي الانتباه ويمكن
ملاحظته في الصور كافّة؟ أجل، لقد أصبتَ، معظم الرجال ذوو لحية. آنذاك كانت
تربية اللحية في الموضة وليس كما في أيّامنا اليوم، حيث أنّ أبناء
عائلة الكهنة حتّى لا يحرِصون على ذلك إلا حين بلوغهم عمرًا متقدما. في أيّامنا هذه
تربية اللحية/الذقن بمثابة موضة.
ولكن إن تسألني بالرغم من أنّني لست من بين مسنّي
الطائفة، فإنّي قد تعلّمت من الأوائل أنّه ذات مرّة في الماضي البعيد كانت تربية
اللحية إلزامية، حتّى نوعًا من موضة كانت تنمّ عن العمر والاحترام. أجل، احترام وشرف
كما لدى بعض المجتمعات التي تربُِط بين تربية الشارب والشرف الشخصي، حلقت شاربه
يعني مسست بشرفه.
شقيقي راضي (رتسون) رحمه الله، كان يقرِن بين تربية الذقن والشيخوخة. دأب
على القول، عندما تطلق الناس على شخص ما ”أبو لحية“ وكان مسنًّا فالمقصود أن لفظة זקן أي ذقن/لحية
هي بمثابة זה קן أي هذا عُشّ (تلاعب بالألفاظ)
للحكمة والمعرفة. اليوم لا يمكن قول ذلك عن الذقن، حيث نجد بين
ظهرانينا رجالا في الثمانين والتسعين من العمر يحرِصون على حلاقة الوجه بعناية
فائقة، لا ذقن ولا أثر له.
ولكن كما ذكرت، ذات يوم كانت الناس تعزو لموضوع تربية
الذقن معنىً كبيرا.
كلّ من ربّى ذقنًا كان ذلك يضفي ملامح محترمة ووزنًا في
المجتمع.
حول هذا الموضوع تدور القصة التي أنوي سردَها عليك.
أجمل ذقن
لا بدّ قبل أن أبدأ بسرد هذه القصّة من أن أتطرّق إلى
أجمل لحية رأيتها في صورة ما، إنّها لحية الكاهن الأكبر توفيق بن خضر (متسليح بن
فنحاس)، رحمة
الله عليه. على كلّ حال، لحية جميلة كهذه لا تراها إلّا نادرًا. الكاهن الأكبر
توفيق، الشهير بأبي واصف غادر هذا العالم عام ١٩٤٣ وعندها كنت ابن أربع سنوات. وهنالك أشياء
تُحفر في ذاكرة ابن الأربع سنين.
إنّها تلك المشاهد الأولى التي عايشها في مخّه المتنامي
ولا تتلاشى من ناظريه.
وبعد ذلك يكتمل المشهد الذي انطبع في ذاكرتك مع الصور
التي تراها في الكتب والقصص الرائعة التي تسمعها من أفواه شيوخ الطائفة.
كان الكاهن الأكبر، توفيق بن خضر، الذي ترأّس سامريي
نابلس في ثلاثينات وبداية أربعينات القرن المنصرم، من نوع نادر من الرجال الذين لا
يمحّون أبدًا من الذاكرة الجيدة لدى الذين عاشوا بمعيته، والحريصين على نقل
مجدهم لأبنائهم. كان الكاهن
الأكبر توفيق رجلًا وسيمًا بكلّ ما في الكلمة من معنى، أصيلًا نفسًا
وروحًا، حازمًا ولطيفا،
ذا أبّهة أضفت وقارًا حيثما حلّ. قسط كبير من
هذه الأبّهة يعود إلى ذقنه الجميل الذي جمّل وجهًا نبيلًا حازمًا، ولعينين
جميلتين جدا وثاقبتين تغرِسان الهيبة والاحترام في فؤاد كلّ ناظر. وإذا أضفت إلى
ذلك قامته الممشوقةَ وظهره الصلب المتين، انتصب أمامك رجلُ وقار، والوقار لاحقه
حيثما ذهب وحلّ.
لحية شقراء كبيرة زيّنت وجهه. سمعت من أسيادي
أنّه عندما كان ينزِل إلى السوق،
كان العرب ينحنون ويُقبّلون أطراف عَبايته إذ أنّ عيونهم
لم تر قطّ في حياتهم رجلًا وسيمًا لهذه الدرجة (كل هلقدّه) مضفيًا عليهم
هيبة ووقارا. من الصعوبة بمكان إحصاء القصص التي
يعرفها شيوخنا عن أبي واصف.
يظهر أنّك لا تجد في الطائفة رجلًا تعرفه أو سمعت عنه
ويكثُر الحديث في مدحه والثناء عليه. إنّه عامل
الآخرين باحترام وفي الوقت ذاته عرف كيف يحافظ على علوّ شأن كهنوته أيضا. وهذه المنقبة
جعلت وجهاء نابلس يحترمونه.
رجل الحصافة
عند دخول الكاهن الأكبر للقاء ما، كان يقوم الجميع
احترامًا له، وثِقوا به وبقوّة مزاياه. وعند اندلاع خلاف داخلي في الطائفة بشؤون المكانة
والشرف، فضّل وجهاء المدينة تأييد أبي واصف لأنّهم أيقنوا أنّ الله معه.
وعندما مسّ عربي جاهل بشرفه وطلب قضاة المدينة معاقبته
على هذا الفعل الدنيء، كان يرى بالكاهن شفيعًا له أمام القاضي. وهكذا كان أبو
واصف يحوّل العدو إلى حبيب، طالما هو حي يرزق. ذلك الخصم الذي
أصبح صديقًا بذل منذ ذلك الوقت كلّ ما باستطاعته لإرضاء الكاهن الأكبر في تلبية
كلّ طلب وغرض.
ببساطة،
أصبح عبدًا له أبدَ الدهر. حوادث كهذه
حصلت لكهنة آخرين نهجوا نهج أبي واصف والقصص معروفة.
لا أروع من مشاهدته قاعدًا على رأس حفل فرح، أو عند
قراءة مولد موسى، كما قصّ عليّ شقيقي الأكبر. الكاهن الأكبر، توفيق، ضخم الجسم، ذو ذقن أبيض
كبير يغطّي وجهه ويصل إلى وسط صدره.
ما أروع ذلك المنظر. وعلى يمين
الكاهن الأكبر وعلى يساره قعد شيوخ الطائفة. ولم يجرؤ أيّ شاب على الجلوس بجوار هذه الشِلّة المحترمة
خشية التقاء عينه بنظرة أبي واصف الثاقبة المؤنّبة لعدم العثور على مكانه. عندها كان
يُنشد نشيدًا طريفًا من نظم أبيه خضر بن إسحق الشاعر الشهير. وعند إنشاده لم
يفكّر أحد في التحدّث،
الجميع يُصغون باستمتاع وباحترام جم.
إنّه لم يفرض نفسه على المخلوقات. حضوره
المغناطيسي جعل الناس يأخذونه بعين الاعتبار ويلائمون خطواتِهم بحسب مدى تعامله. إنّ الحسد
والتنافس هما دومًا من نصيب كلّ مجتمع صغير. نهج أبي واصف حِيالَ أولائك الذين طلبوا نصيبًا من
الكهنوت مثله،
جعل خصومه يصمتون لعجزهم عن إسماع انتقاداتهم بمعيّته. نهجه وكيانه
أثّرا عليهم بشكل كاسح جدا.
هكذا، وبدون أيّ جهد خاصّ تقريبًا، فاز بمبتغاه. وبفضل حكمته
وتجاربه عرف كيف يضع إصبعه على كلّ خلاف
أو مشكلة بعد فحص قصير،
بينما استغرق ذلك لدى الآخرين زمنًا طويلًا.
سبب تربية اللحية
اهتمّ أبو واصف، الكاهن الأكبر، دائمًا بأن يعرف كلّ فرد
من طائفته الصغيرة أن يلائم نفسه وسلوكه تمشيًا مع عمره، فإذا كان أحد مسنّي العائلة أو أيّ إنسان
متقدّم في السنّ فعليه أن يربّي فورًا ذقنًا. وقال أبو واصف
إن اللحية تضيف للإنسان ثقلًا إيجابيًا، وتحدّد لحدّ لا يستهان به تعاملَه مع
الآخرين.
في أيّامه تمكّن أبي الأمين وعمّي ممدوح من أن يكونا ضمن
رؤساء عائلة صدقة الصباحي.
وفي تلك الأيّام لم يكن معدّل عمر الإنسان عاليًا، وكلّ
من تجاوز الأربعين عامًا من العمر ٱعتبر أحد مسنّي العائلة. زاول والدي
وعمّي التجارة وتجّولا كثيرًا في طرق البلاد وسوريا لبيع تجارتهم. ربّما بسبب ذلك
لم يحرِصا في بداية شيخوختهم على إظهار ذلك من خلال تربية لحية أو سكسوكة/ذُقين أو أثر
ذقن.
هذا الشيء ضايق الكاهن الأكبرَ توفيقًا جدًّا، إلا أنّه
كظم ذلك ولم يقل لهما شيئا.
ذات يوم، عندما جلس أبي الأمين وعمّي ممدوح في مدخل
دكّانهما في سوق نابلس، وهما حليقان تمامًا في ساعة الصباح ينتظران رزقهما، مرّ
أبو واصف بهما.
وقفا على الفور وطرحا عليه تحيّة السلام. ابتسم الكاهن
وقال: آه، كم رفّه عنّي البارحة بعد الظهر مهرِّج وصل نابلس وعرض على جمهور
المتفرّجين المرحين قردين أضحكا الحضور، لا سيما لأنّ المهرِّج حرِص على نتْف كل
شعرات رأسيهما!
قال هذا الكاهن الأكبر ولم يُفصح.
والدي الأمين وعمّي ممدوح لم يكونا بحاجة لمن يفسّر لهما
كلام الكاهن الأكبر توفيق.
مرّ بهما الكاهن ولم يجلس كعادته من زمن بعيد. منذ تلك اللحظة
لم يلمس الموس وجهيهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق