تقهقر الإعلام
ليس ثمة شك بأن واحدا من أهم معطيات “دمقرطة” شبكة المعلومات الدولية وإتاحتها على نحو واسع، زيادة على دخول وسائل التواصل الاجتماعي حقل الخدمات عمليا، قد قاد إلى كسر احتكار وسائل الإعلام التقليدية في تعاطي الأخبار وتداول الجديد و”الطازج” حول كل صغيرة وكبيرة، بل وحتى ما يجري خلف الكواليس كذلك.
بطبيعة الحال، لم يزل الحكم المطلق بــ”نهاية الإعلام” التقليدية سابقا لأوانه، برغم ملاحظة تقهقره بسرعة أمام تقدم وتعاظم وتخلل دور وسائل التواصل الاجتماعي على نحو هو بدرجة من العزم أنه لا يمكن للإعلام مقاومته أو كسر شوكته، على سبيل كسب فضاء أكبر له، وإن كان أدنى مما كان يستمتع به من شيوع وطلب جماهيري سابقا، أي قبيل ظهور واشتداد منافسة “التواصل الاجتماعي”.
وقد جسد تاريخ مؤسسة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية أبرز الانتقالات في وسائل الاتصال الجماهيري ومخاطبة الجمهور عبر العقود الماضية: فإذا كان الرئيس روزفلت قد وظّف البث الإذاعي أداة للفوز بالرئاسة، ومن ثم لإيصال رسائل البيت الأبيض إلى قاعدة عريضة من الجمهور، فإن الرئيس الراحل جون كنيدي كان أول من وظّف التلفزيون قناة مرئية للاتصال الجماهيري مذ أن بُثت مناظرته الشهيرة مع منافسه الجمهوري آنذاك، ريتشارد نيكسون، إذ طوى التلفاز صفحة البث الإذاعي الأثيري بسبب تفوقه، “مشوافا”، بمعنى أن المستهلك الإعلامي يرى ويسمع كذلك ما يحدث على نحو حي.
أما آخر لكمة قاضية تلقاها الإعلام التقليدي أعلاه، فقد وجهها إليه الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، عندما راح يضخ خطاباته وأفكاره، بل وحتى ما يدور في خلده على نحو غير معلن من خلال “التغريد” Twitter، متجاهلا كلا من المذياع و”المشواف” الصحيفة والنشرات عامة وممتطيا ما يمكن أن يوصل صوته على نحو مباشر، بلا “فلترة” ولا محررين، إلى جمهور أعرض وأكثر مباشرة، درجة شعور العاملين في الدائرة الصحفية في البيت الأبيض بأنهم فائضون عن الحاجة، وبأنه قد آن الأوان للبحث عن وظائف جديدة، بغض النظر عن حملتهم لنقد تجاهل الرئيس لهم وانفعاليته كما تتجلى على صفحات “التويتر” عبر الأخطاء الإملائية والنحوية التي يمررها هو، غير آبه بالآخرين، بل ودون منح مراجعي خطابات الرئاسة اللغويين فرصة للتصويب.
يبدو لي شخصيا بأن افتتان الجمهور عامة بوسائل التواصل الاجتماعي، على تنوعها واختلاف ميزاتها، إنما يكمن في أن هذه الوسائل لا تجهزه بالخبز الساخن “الطازج” فقط، بل هي تبلغه بقرب مجيئه حتى قبل أن يحدث (الخبز هنا هو رمز للخبر)، من خلال ضخ الدعايات والتقولات والتكهنات والإشاعات، وعلى نحو مكثف قد يساعد على حدوث ما لم يكن متوقعا، ناهيك عن ولع “الجنس اللطيف” الذي لا يقاوم بالإشاعات و”بخفايا مجتمع النسوان”، كما يقال، أي في سياق حالات الغيبة والنميمة، لبالغ الأسف!
والحق، فإن تراجع دور الإعلام يمكن أن يقضي على هيمنة السلطة في الدول ذات الحكومات الشمولية على “إعلام مركزي” ما تريده هي أن يكون هو فقط متاحا من أخبار ودعايات، الأمر الذي لا بد أن يقضي على أساطير من نوع “الإعلام الموجه” والإعلام التعبوي”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق