لا يتبلور شعور المستشرق بــ”الأبوية” على نحو أكثر وضوحا واستفزازا مما يتجلى على صفحات برنارد لويس Lewis، شاخصا رئيسا في “نقابة الدراسات الإسلامية” بجامعة برينستون. وله أطروحة، مفادها: إن المستشرقين ليسوا بخدام للإمبراطورية. وللبرهنة على هذه الافتراضية يراجع لويس فضائل التورخة الاستشراقية، محاولا مقارنة تواريخ الهند التي خطها المستشرقون مع التواريخ المشوهة التي خطها المسلمون الهنود.
اعتمد عدد من المستشرقين موقف الراوي “الأبوي” و”الكامل المعرفة” نحو الأقوام والثقافات الشرقية. “عاملناهم كأطفال”، كما كتبت هاريّيت مارتنو Martineaue بصراحة في معرض رحلتها إلى الشرق الأوسط، “وقد حقق ذلك هدفه على نحو مثالي”. يلاحظ المرء أن التقدير العالي للحضارات الشرقية القديمة لدى الغربيين يغلف شعورا ضمنيا مفاده: منذ زمن انتهاء تلك الحضارات الغابرة، بقي الشرقيون متجمدين على حال الطفولة. والدافع هنا هو الإقلال من شأن الشرقيين المعاصرين عن طريق مقارنتهم بأجدادهم القدماء. ويعني هذا كذلك أن دراسة التواريخ الشرقية إنما هو دراسة لطفولة النوع البشري وحضارته (وهي الحضارة التي تتقدم وتتعقد إلا مع التقدم الأوروبي).
لا يتبلور شعور المستشرق بــ”الأبوية” على نحو أكثر وضوحا واستفزازا مما يتجلى على صفحات برنارد لويس Lewis، شاخصا رئيسا في “نقابة الدراسات الإسلامية” بجامعة برينستون. وله أطروحة، مفادها: إن المستشرقين ليسوا بخدام للإمبراطورية. وللبرهنة على هذه الافتراضية يراجع لويس فضائل التورخة الاستشراقية، محاولا مقارنة تواريخ الهند التي خطها المستشرقون مع التواريخ المشوهة التي خطها المسلمون الهنود. وغرضه هنا يتضح في عرضه ما يفيد بأن الشرقيين عامة، والمسلمين منهم خاصة إنما هم عاجزون عن كتابة تاريخ صحيح، إلا عندما يتمتعون بالحماية الأبوية التي تقدمها بريطانيا. بالنسبة إلى لويس، لم يتحقق تاريخ دقيق للهند، إلا مع الاحتلال والضم البريطانيين لشبه القارة الهندية. وزيادة على ذلك، تبقى الثقافة البريطانية هي المسؤولة عن خلق الوعي بالتاريخ بين الهنود. ثم يحاول لويس بعدئذ أن يعلن بأن الشرقيين عامة لا يمتلكون إحساسا بتواريخهم، لأنهم لا يحتفظون بإحساس بهوياتهم، إذ يقول: “عبر القارات الشاسعة التي أسماها الأوروبيون آسيا وإفريقيا، لم يكن من الممكن أن يكون هناك أي إحساس بالهوية قابل للمقارنة بسواه”. لذا، هو يؤمن أنه “فقط أوروبا مثلت نوعا من الهوية التاريخية، بثقافة مشتركة مستوحاة من جذور إغريقية ـ رومية، وعبرية ـ مسيحية، قوامه إحساس مشترك بهويتها الخاصة. وإذ يستبعد لويس التورخة الشرقية بوصفها بلا فائدة، يخلص هو إلى أن من واجب ثقافته الإنسانية أن تمنح الإنسان الشرقي هويةً، من خلال منحه “تاريخا”:، فيعلن:
فقط في العصر الحديث أقنع التأثير الأوروبي والجبروت الأوروبي والبحث العلمي الأوروبي، سكان آسيا وإفريقيا بأنهم آسيويون وأفارقة، وبأن هذه الحقيقة إنطوت على شيء من الدلالة السياسية والتاريخية.
على الرغم من عدم إمكانية تحديد دوافع وإرهاصات كل واحد من المستشرقين، أكانت ظاهرة أم مبطنة، عبر مؤلفاتهم، فإنه من المفيد أن نتتبع عددا من الأنماط والأفكار المتكررة في تعامل المستشرقين مع التاريخ الشرقي، خاصة مع التواريخ العربية الإسلامية. إنه لمن المؤكد أن كل كاتب يحتاج إلى “دراسة حالة”، على سبيل إماطة اللثام عن إرهاصاته ودوافعه، بالرغم من أن أحد الأنماط المهمة يتشكل من ذلك الإطار العام الذي شجعه التقدم العلمي والإمبراطوري الأوروبي، يخص التواريخ الشرقية بمدخل خارجي سطحي، جزءا من إرادة غربية “ذكورية” لفرض الهيمنة على شرق “سكوني”. ينطبق ذلك “التأنيث” على أغلب تواريخ المستشرقين، ابتداءً من اللورد ماكولي Macaulay، وانتهاءً ببرنارد لويس. زد على ذلك نمطا آخرا، هو ذلك الذي يوحي به ذات الإحساس الغامر بالتفوق، أي ذلك المدخل الذي يجد في الماضي الشرقي إنما حقلا جديدا ينبغي أن يتعامل المستشرق معه نيابة عن الإنسان الشرقي ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق