كما أن على المرء أن يلاحظ أن جوهر تهمة “الماضوية” الموجهة ضدنا إنما يتبلور في اتخاذ الماضي في ثقافتنا اليوم أساسا وحيدا وواحدا للتيقن، بمعنى حبس العقل العربي الإسلامي المعاصر في صومعة “تاريخية” لا يمكن إلا أن تحجمه وتمنع انطلاقه نحو آفاق التقدم والتغير والتغيير الواسعة.
يدور الحديث عن “التلاقح الثقافي” مع العالم الغربي الآن دورانا عجيبا ليعود إلى ذات نقطة الاستعصاء في أغلب الأحيان.
لذا ينبغي للمتابع أن يحدد ما يهم ثقافتنا العربية الإسلامية من نقاط الاعتراض أو النقد الموجهة إليها من قبل الأقلام الغربية عامة، أي تلك التي لا تهتم بفكرنا مجردا لذاته، وإنما تركز من خلاله على محاولة تشخيص واستمكان آثار الثقافة الغربية (المتفوقة، كما يرون) علينا في خضم أجواء الحوارات/الصراعات الثقافية التي تبادر لها الثقافات الأخرى، الشرقية على نحو خاص. أما إذا ارتأينا تحديد أهم الانتقادات الموجهة إلى ثقافتنا، ومن ثم إلى حضارتنا القائمة اليوم، فإننا يجب أن نلاحظ “تهمة” الانغاس في البعد التاريخي المهيمن على فكرنا المعاصر، حسبما يرى الغربيون. وهم على حق بذلك.
يبرر الغربيون إثارة هذه النقطة السلبية ضد ثقافتنا العربية الإسلامية اليوم، بيد أن هذا لا يعني قط بأن علينا أن نغادر الماضي، الآن وإلى الأبد، نحو المجهول الذي لا نمتلك زمام المبادرة الحضارية لإدارته. كما أن على المرء أن يلاحظ أن جوهر تهمة “الماضوية” الموجهة ضدنا إنما يتبلور في اتخاذ الماضي في ثقافتنا اليوم أساسا وحيدا وواحدا للتيقن، بمعنى حبس العقل العربي الإسلامي المعاصر في صومعة “تاريخية” لا يمكن إلا أن تحجمه وتمنع انطلاقه نحو آفاق التقدم والتغير والتغيير الواسعة. وعلى الرغم من أن بعض الكتاب العرب انبروا رادين على تهمة “الإقامة الجبرية” في بطون التاريخ على أساس نظرية تقديس الأسلاف والمبالغة في تعظيم التراث، فإنهم (كما يبدو) لم يتمكنوا من إقناع النقاد الغربيين بفكرة مفادها أن الماضي بالنسبة لنا، هو “المولد الأول” باتجاه التقدم. هذا جدل لا يقنع العقل الغربي لأنه يرى في التشبث بالحقب السالفة نوعا من أنواع العوق والتردي.
كما يمكن أن يلاحظ المتابع أن ما يسمى بعصر النهضة الذي جاء متأخرا في العالم العربي الإسلامي لم ينطلق في أواخر القرن التاسع عشر إلا تأسيسا على جدل تاريخي، مفاده أن حضارتنا “كانت” متفوقة في العصر الوسيط، فلماذا لا تتفوق على الغرب أو توازيه اليوم؟ هذا هو جوهر ما فكر به أساطين النهضة، خصوصًا رفاعة رافع الطهطاوي والسيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده حقبة ذاك. ومن أجل مباشرة هذا الجدل المنطقي المبرر، بشيء من الواقعية، يتوجب ملاحظة ما أفرزه الانهيار المدوي للامبراطورية العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى، ثم بدايات مطالبة العرب الامبراطوريات الأوروبية الصاعدة بالاستقلال السياسي، دولا فنية.
وكنتيجة لما جاء في أعلاه، برزت ثلاثة تيارات فكرية رئيسة تمكنت من الهيمنة على الفضاء الثقافي العربي أوائل القرن العشرين، وهي: التيار الديني؛ التيار القومي؛ والتيار اليساري. اعتمد التياران الأول والثاني خطابا تاريخيا صرفا في جوهره، باعتبار أن العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية “التاريخية” يمكن أن تفعّل كي تفعل فعلا توليديا وثابا في نفوس الشبيبة من أجل إعادة أمجاد التاريخ. في الحال الأولى، كان الارتجاع إلى عصر صدر الإسلام خاصة، ولكنه كان ارتجاعا سلفيا قاد إلى إطلاق عدد لا بأس به من الأحزاب والحركات والمنظمات السياسية التي لم تزل فاعلة في عالمنا الإسلامي. أما في الحال الثانية، فقد حاول القوميون أن يحققوا توازنا من نوع ما بين استلهام التراث على نحو انتخابي انتقائي من أجل تزويجه بالحداثة التي جاءت أصلا مستعارة أو مستنسخة من الفكر القومي الأوروبي العلماني، خصوصا الألماني والإيطالي: لنتذكر الاهتمام بقصص توحيد ألمانيا وإيطاليا في كتبنا المدرسية. أما البعد التاريخي للفكر اليساري، وهي الحال الثالثة، فإنه لم يتجاوز القراءة الماركسية ـ الاقتصادية لتاريخ البشرية “عبر تحليل علاقات الإنتاج ووسائله”، ثم وما تبع ذلك من تحقيبات تقود الإنسان نحو عصر “خيالي افتراضي”، هو عصر المشاعية المطلقة أو الشيوعية. لذا أطلق اليساريون الذين انتشت حركاتهم خاصة بين بلاد الشام والعراق دعوات راديكالية من النوع الذي ينسخ الماضي ويتجاوزه تماما، الأمر الذي قاد إلى ردة فعل محافظة عنيفة اتهمته بالنكران والكفر والالحاد. وقد ساعد الصراع بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي كثيرا في لجم الحركات الشيوعية واليسارية الأخرى بغض النظر عن تنوعاتها.
وتأسيسا على أن الفكر الرأسمالي الغربي مضاد للحركات اليسارية خاصة في حقبة الحرب الباردة، فإنه تعمد مقاومتها ولجمها وبترها، الأمر الذي قاد إلى انتشاء الحركات والأحزاب الدينية والقومية كنتيجة تلقائية. ومع هذا راح النقاد الغربيون يهاجمون فكرة تقديس الماضي العربي الإسلامي التي اعتمدها التياران الأول والثاني المذكوران أعلاه، بدعوى أن التاريخ القومي لم يكن كله أنموذجا نقيا تتوجب محاكاته بتعام. هناك صفحات مشرقة، وهناك صفحات أقل إشراقا، كما أن هناك نماذج ينبغي أن نتحاشاها. وقد برر هذا الموقف الجدل المدخل الانتقائي نحو التاريخ.
وعليه، ظهرت الدعوات في العديد من العواصم العربية إلى “إعادة كتابة التاريخ”، وهي دعوات انتقائية صرف، حاولت استلال المضيء من التاريخ المحلي وإهمال “الثقوب السوداء” في دواخله. وقد حورت العديد من القوى المتنفذة فكرة إعادة الكتابة على نحو نفعي وحيد الجانب، بالطريقة التي تقود إلى تبرير نفوذها وسطوتها واستحواذها على مقاليد الأمور، الأمر الذي أدى إلى المزيد من التشويه، زد على ذلك ظهور أعداد لا بأس بها من النقاد والمعترضين الذين وجدوا في فكرة “إعادة كتابة التاريخ” ارتدادا رجوعيا يتجاوز الحقيقة التاريخية الجارية نحو تعظيم الأسطورة التاريخية. وهكذا وقعنا في مأزق فكري ـ ثقافي آخر بسبب محاولات البعض “العبث” بالتواريخ التي أورثنا إياها شيوخ المؤرخين كالطبري والمسعودي!
لذا ينبغي للمتابع أن يحدد ما يهم ثقافتنا العربية الإسلامية من نقاط الاعتراض أو النقد الموجهة إليها من قبل الأقلام الغربية عامة، أي تلك التي لا تهتم بفكرنا مجردا لذاته، وإنما تركز من خلاله على محاولة تشخيص واستمكان آثار الثقافة الغربية (المتفوقة، كما يرون) علينا في خضم أجواء الحوارات/الصراعات الثقافية التي تبادر لها الثقافات الأخرى، الشرقية على نحو خاص. أما إذا ارتأينا تحديد أهم الانتقادات الموجهة إلى ثقافتنا، ومن ثم إلى حضارتنا القائمة اليوم، فإننا يجب أن نلاحظ “تهمة” الانغاس في البعد التاريخي المهيمن على فكرنا المعاصر، حسبما يرى الغربيون. وهم على حق بذلك.
يبرر الغربيون إثارة هذه النقطة السلبية ضد ثقافتنا العربية الإسلامية اليوم، بيد أن هذا لا يعني قط بأن علينا أن نغادر الماضي، الآن وإلى الأبد، نحو المجهول الذي لا نمتلك زمام المبادرة الحضارية لإدارته. كما أن على المرء أن يلاحظ أن جوهر تهمة “الماضوية” الموجهة ضدنا إنما يتبلور في اتخاذ الماضي في ثقافتنا اليوم أساسا وحيدا وواحدا للتيقن، بمعنى حبس العقل العربي الإسلامي المعاصر في صومعة “تاريخية” لا يمكن إلا أن تحجمه وتمنع انطلاقه نحو آفاق التقدم والتغير والتغيير الواسعة. وعلى الرغم من أن بعض الكتاب العرب انبروا رادين على تهمة “الإقامة الجبرية” في بطون التاريخ على أساس نظرية تقديس الأسلاف والمبالغة في تعظيم التراث، فإنهم (كما يبدو) لم يتمكنوا من إقناع النقاد الغربيين بفكرة مفادها أن الماضي بالنسبة لنا، هو “المولد الأول” باتجاه التقدم. هذا جدل لا يقنع العقل الغربي لأنه يرى في التشبث بالحقب السالفة نوعا من أنواع العوق والتردي.
كما يمكن أن يلاحظ المتابع أن ما يسمى بعصر النهضة الذي جاء متأخرا في العالم العربي الإسلامي لم ينطلق في أواخر القرن التاسع عشر إلا تأسيسا على جدل تاريخي، مفاده أن حضارتنا “كانت” متفوقة في العصر الوسيط، فلماذا لا تتفوق على الغرب أو توازيه اليوم؟ هذا هو جوهر ما فكر به أساطين النهضة، خصوصًا رفاعة رافع الطهطاوي والسيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده حقبة ذاك. ومن أجل مباشرة هذا الجدل المنطقي المبرر، بشيء من الواقعية، يتوجب ملاحظة ما أفرزه الانهيار المدوي للامبراطورية العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى، ثم بدايات مطالبة العرب الامبراطوريات الأوروبية الصاعدة بالاستقلال السياسي، دولا فنية.
وكنتيجة لما جاء في أعلاه، برزت ثلاثة تيارات فكرية رئيسة تمكنت من الهيمنة على الفضاء الثقافي العربي أوائل القرن العشرين، وهي: التيار الديني؛ التيار القومي؛ والتيار اليساري. اعتمد التياران الأول والثاني خطابا تاريخيا صرفا في جوهره، باعتبار أن العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية “التاريخية” يمكن أن تفعّل كي تفعل فعلا توليديا وثابا في نفوس الشبيبة من أجل إعادة أمجاد التاريخ. في الحال الأولى، كان الارتجاع إلى عصر صدر الإسلام خاصة، ولكنه كان ارتجاعا سلفيا قاد إلى إطلاق عدد لا بأس به من الأحزاب والحركات والمنظمات السياسية التي لم تزل فاعلة في عالمنا الإسلامي. أما في الحال الثانية، فقد حاول القوميون أن يحققوا توازنا من نوع ما بين استلهام التراث على نحو انتخابي انتقائي من أجل تزويجه بالحداثة التي جاءت أصلا مستعارة أو مستنسخة من الفكر القومي الأوروبي العلماني، خصوصا الألماني والإيطالي: لنتذكر الاهتمام بقصص توحيد ألمانيا وإيطاليا في كتبنا المدرسية. أما البعد التاريخي للفكر اليساري، وهي الحال الثالثة، فإنه لم يتجاوز القراءة الماركسية ـ الاقتصادية لتاريخ البشرية “عبر تحليل علاقات الإنتاج ووسائله”، ثم وما تبع ذلك من تحقيبات تقود الإنسان نحو عصر “خيالي افتراضي”، هو عصر المشاعية المطلقة أو الشيوعية. لذا أطلق اليساريون الذين انتشت حركاتهم خاصة بين بلاد الشام والعراق دعوات راديكالية من النوع الذي ينسخ الماضي ويتجاوزه تماما، الأمر الذي قاد إلى ردة فعل محافظة عنيفة اتهمته بالنكران والكفر والالحاد. وقد ساعد الصراع بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي كثيرا في لجم الحركات الشيوعية واليسارية الأخرى بغض النظر عن تنوعاتها.
وتأسيسا على أن الفكر الرأسمالي الغربي مضاد للحركات اليسارية خاصة في حقبة الحرب الباردة، فإنه تعمد مقاومتها ولجمها وبترها، الأمر الذي قاد إلى انتشاء الحركات والأحزاب الدينية والقومية كنتيجة تلقائية. ومع هذا راح النقاد الغربيون يهاجمون فكرة تقديس الماضي العربي الإسلامي التي اعتمدها التياران الأول والثاني المذكوران أعلاه، بدعوى أن التاريخ القومي لم يكن كله أنموذجا نقيا تتوجب محاكاته بتعام. هناك صفحات مشرقة، وهناك صفحات أقل إشراقا، كما أن هناك نماذج ينبغي أن نتحاشاها. وقد برر هذا الموقف الجدل المدخل الانتقائي نحو التاريخ.
وعليه، ظهرت الدعوات في العديد من العواصم العربية إلى “إعادة كتابة التاريخ”، وهي دعوات انتقائية صرف، حاولت استلال المضيء من التاريخ المحلي وإهمال “الثقوب السوداء” في دواخله. وقد حورت العديد من القوى المتنفذة فكرة إعادة الكتابة على نحو نفعي وحيد الجانب، بالطريقة التي تقود إلى تبرير نفوذها وسطوتها واستحواذها على مقاليد الأمور، الأمر الذي أدى إلى المزيد من التشويه، زد على ذلك ظهور أعداد لا بأس بها من النقاد والمعترضين الذين وجدوا في فكرة “إعادة كتابة التاريخ” ارتدادا رجوعيا يتجاوز الحقيقة التاريخية الجارية نحو تعظيم الأسطورة التاريخية. وهكذا وقعنا في مأزق فكري ـ ثقافي آخر بسبب محاولات البعض “العبث” بالتواريخ التي أورثنا إياها شيوخ المؤرخين كالطبري والمسعودي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق