سواليف الديرة- (1)
يا رب تشتي وأروح عند ستّي
**حكاية جدّتي
كان يا مكان- تبدأ
جدّتي "لطيفة العيد" برفقة صديقاتها وجاراتها وهن شلّة من الجدّات والأمّهات
اللواتي لا يعرفن الكتابة والقراءة، يجلسن في إحدى زوايا بيت جدّتي القديم في أيام
الشتاء، يلتففن حول موقد النار، يتدفأن بالكانون وحطباته وجمراته وجفتاته- والجفت هو
بزر الزيتون المهروس والمشبّع بالزيت الذي تبقّى فيه بعد عصر الزيتون، وهو بمثابة
المادة التي تساعد على الاشتعال.
يبدو أن شهر يناير
(كانون الأول)- إله البوّابات والبدايات الزّمنية عند الرّومان واليونان- بالنسبة لأطفال
قرية دير الأسد هو إله الزمهرير الذى يخيف الطفولة ويرعب الشيخوخة، ففيه تجتمع الجدّات
كل مساء، من حولهن الأبناء والأحفاد من كل الأعمار، يأخذن بألباب مستمعيهن إلى عالم
الحكايات الشعبيّة والخرافيّة التي لم يألفوها. وأنا كنت من أوائل المشاركين في هذه
الجلسات، أرسم الحكاية التي أسمعها في مخيلتي بكلماتها وانفعالاتها وأعيش حياة الأبطال
بانتصاراتهم وانكساراتهم نحو مآرب الخير والشر، واختار شخوصا من الواقع واستبدلها بشخوص
الحكايات الوهميّة، فأنا أسمعها من جدّتي وصديقاتها وأترجمها إلى أشخاص حقيقيين أعرفهم
من بلدتنا، رغم أنني كنت أخجل من الكلمات الإباحية التي تنطق بها الجدّات دون وازع.
حكايات الجدّة
هي حكايات شعبية لارتباطها بحياة الناس في كل بيئة، ارتباطًا يؤثّر سلوكيًا على نفوس
المستمعين من ناحية عبر ما تغرسه من قيم التعاون والتراحم والكرم والإغاثة والشجاعة
والفزعة، وحكايات صقلت نفوسنا وشخوصنا كأطفال ووسّعت آفاقنا وأغنت وأخصبت خيالنا الصغير،
ففرحنا لفرح البطل وبكينا بحرارة لموته. فمعظم الحكايات الشعبية، تهدف إلى غرس قيم
ومعانٍ إنسانية ومثاليات، ولإقناع المتلقي بأهمية ذلك فإنّ الحكاية تنتهي إلى ما يتلاءم
والضمير أو الحس الإنساني المرهف وإن لم تكن النهاية واقعية..
أم فياض- وهي إحدى
الجدّات- أصلها من مدينة عكا القديمة ومتزوجة في دير الأسد، كنت أخاف من طريقة سردها
للحكايات، فعندما يكون دورها في نقل الحكاية، كانت تنفعل في تقمصها لشخوص القصة وتنقل
مشاعرها الغاضبة والمخيفة والشريرة إلينا، وتقص حكاياتها بطريقة مشوّقة وجذّابة ومبهرة
بلهجتها المدنية المحبّبة، لهجة أهل عكا التي لم أعتد سماعها ولم تكن مألوفة لأذني
الفلاحية.
أما والدتي زينب
وعمتي انتصار فكان لهما دورًا كبيرًا في نقل القصص الشعبية لنا كأطفال صغار، ضمت معجما
للألفاظ الدارجة وخاصة الإباحية منها، وهما يغزلان كلامهما على مهل ومغالبة الزمن بالتؤدة
المخادعة والألغاز، ويركّزان على حكايات من عوالم الجن والعفاريت والغولة والشاطر حسن
وما شابه، ويصوران عوالم القصص في دقة وتفصيل، حكاياتهما الشعبية الشفهية تركزت على
الأحداث أكثر من الشخصيات بمعنى أن الحدث هو البطل وما سواه من الأشخاص يخدمون الحدث..
في الليلة الزمهرير،
تكون برّاكية جدّتي باردة، والبرّاكية هي عبارة عن بيت صغير من الزنك، فعندما كنّا
نعود إليها أنا وجدّتي من سهراتنا عند إحدى الجدّات، تطفئ جدّتي قنديلها الذي يعمل
بالكاز، فتسودّ الدنيا أمامي، وتعمى ابصاري وتخرج العفاريت وغولة القصص التي
سمعتها سابقًا، من شقوق البرّاكية وفجواتها وتبدأ قطرات الشتاء تنقر على سطح البرّاكية
كالطبول لاستقبال الجن، ولمّا يشتد المطر يدلف الماء من شقوق السطح ويسقط في أحد الدلاء
في زوايا البرّاكية أو يصبّ في صينية من الألمينيوم، فتبدأ سيمفونية الرعب في فراش
جدّتي الأبيض ذي الرائحة الطيبة المثلج من شدة البرد وأنا أكزّ على اسناني من الرعب
والبرد، وأدثّر نفسي في عباءة الخوف، فيأتي صوت جدّتي وهي تتلو صلواتها قبل النوم وتطلب
منّي أن أرددها وراءها: نمنا واتكلنا على الله.. كانت تبطل مفعول الخوف وتسري في جسدي
منوّمًا سريع المفعول لاستيقظ قبل انبلاج الفجر وقبل ان تستيقظ جدّتي لصلاتها، واكتشف
انني بللت لها فراشها ذا الرائحة الطيبة بروائحي، وحتى لا تؤنبني على فعلتي، افتح شباك
بيتها الصغير واتسلل منه إلى بيتنا.
بين برّاكية جدّتي
وبيت أبي مسافة تطول في ساعات ما قبل الفجر الباردة الظلماء التي تنساب فيها مخيلتي،
فالطريق ضيقة وبها أحجار يتعثر بها الماشي ويعاكسني ابطال حكايات جدّتي وصديقاتها،
واشعر بأن الغولة تسير خلفي لتلتهمني والجن يتربص بي في كل زاوية، فأسير في الشارع،
فاتحة كتفي وذراعي على مصارعيها بخطى واثقة، مقلدة ابن الجيران "ربحي أبو زياد"
ذا العضلات المفتولة، حتى أخدع الجن والعفاريت والغولة ويعتقدون بأنني ربحي ابن أبو
زياد وكنت استحضر السّكينة إلى روحي وصولا إلى بيتنا، فأنام في فراشي، وفي الصباح الباكر،
انتظر ردة فعل جدّتي وأمي على فعلتي، فلا يبدر منهما ولا حتى إشارة، كأن شيئًا لم يكن،
فأتناسى وأنسى.
أحب الأمور إلى
قلبي كانت الاستيقاظ صباحًا في برّاكية جدّتي، وتكون قد اشعلت كانونها بالفحم والجفت،
وتسمى كانونها الذي تصنعه من الطين الطبّاخ، فتدخله إلى برّاكيتها لتدفئها وتغلي الشاي
مع المرمية وتسخن عليه الخبز فنغمّسه باللبنة التي تصنعها جدّتي.. في صغرنا كنّا نردد
الأغنية الشعبية المعروفة: "يا ربّ تشتّي وأروح عند ستّي، تعملّي فطيرة، آكلها
وأنام وأصبّح جوعان".. وحينها لم ندخل إلى عمق معاني كلمات الأغنية، لكنني اليوم،
أردد تلك الأغنية وأنا أقصد كل كلمة فيها.
قصص جدّتي لطيفة
وجاراتها أم فياض وأم راغب وأم واصف وأم درويش، قصص منبثقة من البيئة القرويّة الفلاحيّة
التي نبتت فيها والطقوس التي واكبوها كي تصبح مشهدًا ثقافيًا تراثيًا مهمًا في السّيرة
الفلسطينية فخزنت الحكاية الشعبية تراثًا ثقافيًا في عقولنا وصدورنا. صوّرت قصصهم حياة
الفلاحين البسطاء والاقطاعي الثري صاحب الأراضي والحقول- المستغِل دائما- والعامل البسيط
أو المزارع المستَغَل الذي يتطلع إلى الثراء، ويُسرق حصاده وتُقطع أشجاره وتُذبح بقراته
ويُحرق محصوله وغيرها.. ودائمًا، ينتصر الخير على الشر، والعدل على الظلم، والمحبة
والمودة على الكراهية، والإنسان على الشيطان، والجماعة الخيّرة الطيبة على العفريت
المارد الشرير... وهكذا.
حكايات الجدّات
وما سمعنا منهن، عبارة عن مخزون ثقافي لمن عاشوا ذلك الزمن، ولنا نحن من بعدهم، ننقله
لأبنائنا ليصوّروا ما صوّروا لنا من صور التلاحم والترابط والعلاقات الحميمة بين ذوي
القربى والجيران وأفراد الأسرة الواحدة، حيث لا يحلو سرد الحكاية من دون تجمع يوحده
الاهتمام والرغبة في الاستماع والمتعة والتعلم.
في هذه الاجواء
القارسة في قريتنا الجبلية وحول موقدة النار وأنا أنام قرب جدّتي واحتضن الفراش، كنت
دائمًا اغفى عند نهاية حكاية أم فياض لتوقظني جدّتي واكتشف بأنني بُلت على فراش أم
فياض، وحين تكتشف ذلك تبدأ بالصراخ بأعلى صوتها وتطلب من جدّتي عدم اصطحابي ثانية،
فافقد لذة الحكاية ولذة الغفوة الرائعة وأشعر بالبرد يسري في جسدي.
***
عندما تفتّح وعيي،
وأصبحت أفرق بين القصة الخيالية والقصة الحقيقية، لفت نظري، أن معظم أهل بلدتنا تشبعوا
طريقة سرد القصة بشكل مشوّق وجذّاب.. لكنّ قصصهم اختلفت عن قصص الجدّات، فهي قصص حقيقية
شاهدوها بأم أعينهم، أو سمعوها ونقلوها بحذافيرها مع زيادة بعض التوابل من أجل شد المستمع
للحكاية.
اكتشفت أن للجميع
كان يوجد جدّات وتعلموا منهن فن رواية القصة. فحتى الشعراء والزجالون من بلدنا، كانوا
يستوحون من قصص الجدّات وطرقهن في بثها للناس.. وفيما سأرويه لكم لاحقًا، لن أنقل لكم
الحكايات الخرافية، فالجميع يعرفها وكل يحكها بطريقته.. سأنقل لكم القصص التي رويت
في قريتنا، وحدثت بالفعل، بفرحها وحزنها وحتّى بكلماتها البذيئة التي شكّلت جماليات
هذه القصص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق