أ.د. محمد الدعمي
لقد تمكن “بيت الحكمة” بواسطة حملة التعريب المذكورة التي شملت كنوز الفكر والعلوم أن يحرر العقل المعاصر من مكبلات دينية كانت قد أحيلت إلى قوى قسرية تبني الجدران بدلًا عن مد الجسور نحو الآخرين. لقد ترك بيت الحكمة، علامةً مضيئةً في تاريخ العالم الثقافي، آثارًا حضارية واضحة المعالم على الثقافة المحلية عبر ما تسبب به من تثاقف.
يضطر المرء للاعتقاد بأن ارتقاء جماعة “إخوان الصفا” بنفسها فوق الولاءات والانتماءات وما يرافق هذا الارتقاء من “وعي كوني” غامض هو الذي جعل أعضاء المنظمة يعمدون إلى ترتيل “نص كوني” في العراء ليلًا، بينما تتوجه جباههم صوب النجم القطبي. هذه طقوس غامضة قد تبدو أقرب للزندقة في نظر بسطاء القوم من سكان البصرة حقبة ذاك، تلك الحقبة التي تأرجحت على حافة مرحلة التدهور الذي حاق بالحضارة العربية الإسلامية آنذاك. من هذا الاختلاط انطلقت تهم الكفر والزندقة ضد “إخوان الصفا”. لقد كانت هذه التهم كافية لتبرير لجوء مؤلف أو جامع (الرسائل) المجهول إلى ذلك الكهف الرمزي المستوحى أصلًا من القصص الإنجيلي والقرآني.
تأسيسًا على أنها منظمة عالمية ومعولمة، يمكن للمرء معاينة “إخوان الصفا” باعتبارها من المعطيات المتأخرة لمؤسسة علمية سبقتها، مؤسسة عولمة ثقافية أقامها الخليفة العباسي المأمون من أجل تعريب كنوز الثقافة والعلوم الخاصة بالأمم الأجنبية، وأقصد بها مؤسسة “بيت الحكمة”. لقد عمد خليفة بغداد إلى تأسيس ورعاية هذا البيت عبر توظيف أذكى العقول من أصقاع دولته الشاسعة فيه من أجل خدمة هدف المؤسسة. تمثل هذه المؤسسة دليلًا واضحًا على وعي الخليفة بحقيقة أن “المعرفة إنما هي القوة”، لأنه أراد أن يقفل التفوق الحضاري العالمي في بغداد، كوزموبوليتان العصر الوسيط، من خلال ضم وجمع نتاجات أعظم العقول من مختلف الفلسفات والديانات والثقافات، ماضيًا وحاضرًا، على سبيل التفاعل الثقافي والعلمي، ومن ثم لقطف ثماره. والحق، فلولا معربو “بيت الحكمة” هذا، لكان العالم قد أضاع أعظم نتاجات الفلسفات اليونانية والعبرية والرومية، من بين سواها من كنوز الفكر من الهند والشرق الأقصى. لقد تمكن “بيت الحكمة” بواسطة حملة التعريب المذكورة التي شملت كنوز الفكر والعلوم أن يحرر العقل المعاصر من مكبلات دينية كانت قد أحيلت إلى قوى قسرية تبني الجدران بدلًا عن مد الجسور نحو الآخرين. لقد ترك بيت الحكمة، علامةً مضيئةً في تاريخ العالم الثقافي، آثارًا حضارية واضحة المعالم على الثقافة المحلية عبر ما تسبب به من تثاقف. عندما نضع “إخوان الصفا” في هذا السياق ننجح في أن نعدهم النتاج الثقافي للانفتاح العباسي المبكر السابق الذي قاده خليفة عباسي طموح هيمنت عليه رؤى المحافظة على التفوق العالمي في دولته. لذا فقد جاء “إخوان الصفا” صدى لتفاعلات ثقافية وفكرية بالغة الأثر حدثت ببغداد في مرحلة ازدهار وعولمة سابقة. وقد عكست (الرسائل) الخلاصة أعلاه بتناولها ومناقشتها أفكارًا وقضايا كانت من المحرمات التي لا يجوز حتى ذكرها، كما كانت عليه الحال في قضايا فلسفية مثل “القدرية” و”الباطنية” و”الأفلاطونية”، زيادة على مناقشتها لاستفهامات فلسفية روحية ودينية ممنوعة التداول حقبة ذاك من النوع الذي أثاره المعتزلة في خلق القرآن ودور الوحي والوجود والعدم. وقد ارتكنت المناقشات حول هذه المسائل الفلسفية التي وردت في (الرسائل)، على ما زعمه كاتبها أو جامعها المجهول من أنه إنما سعى إلى تطهير الشريعة مما علق فيها من الجهالات والضلالات بأدوات الفلسفة.
كان مجرد النطق بعناوين المسائل الفلسفية المذكورة أعلاه من الممنوعات المضادة للمؤسسات، لأنها كانت كافية لتوجيه تهم الارتداد والكفر والهرطقة التي اعتاد التقليديون، بالتعاون مع السلطة، على توجيهها لكل من يذكرها أو يناقشها، بوصفها تحديًا لسلطتهم وتجاوزًا لحدود وأطر التقليد. لا مراء من أن هذا الهاجس كمن وراء سرية “إخوان الصفا”، ففي بيئة اجتماعية وسياسية غير أمينة، يضطر مفكرون مثل “إخوان الصفا” للعمل السري، كناية عن التمرد الصامت الذي يرنو إلى تهشيم الغلاف المتحجر الذي أحاط بالثقافة وضغط بقوة على أذهان أفراد النخبة الفكرية بعد إحالة التقليد الروحي إلى قوة قسر وقهر شبه وثنية حقبة ذاك، للأسف. أما بالنسبة للصفة الإسماعيلية، فربما اكتسبها “إخوان الصفا” من المذهب الذي ولد عليه عدد من أعضاء الجماعة ومؤسسيها؛ بيد أن هذا التحجيم لا ينبغي أن يكون سقفًا خانقًا غير قابل للارتفاع عاليًا إلى مدارات فوق عرقية وفوق دينية أوسع. ثمة شيء غامض في سرية “إخوان الصفا” وتقاليدهم وطقوسهم وعضوية منظمتهم، والأهم في آصرة “الأخوة” التي دأبت المنظمة على تأسيسها وإدامتها بين أعضائها هو توظيف هذه الصفة المذهبية واجهة لإخفاء هوية أخرى (قد تكون الهوية التي افترضناها في أعلاه)، بوصفها تبرعمًا، في القرن العاشر، لجمعية سرية غائرة بالقدم استقرت في البصرة، مسقط رأس “السندباد البحري”، حسب زعم بعض الفرضيات.
تأسيسًا على أنها منظمة عالمية ومعولمة، يمكن للمرء معاينة “إخوان الصفا” باعتبارها من المعطيات المتأخرة لمؤسسة علمية سبقتها، مؤسسة عولمة ثقافية أقامها الخليفة العباسي المأمون من أجل تعريب كنوز الثقافة والعلوم الخاصة بالأمم الأجنبية، وأقصد بها مؤسسة “بيت الحكمة”. لقد عمد خليفة بغداد إلى تأسيس ورعاية هذا البيت عبر توظيف أذكى العقول من أصقاع دولته الشاسعة فيه من أجل خدمة هدف المؤسسة. تمثل هذه المؤسسة دليلًا واضحًا على وعي الخليفة بحقيقة أن “المعرفة إنما هي القوة”، لأنه أراد أن يقفل التفوق الحضاري العالمي في بغداد، كوزموبوليتان العصر الوسيط، من خلال ضم وجمع نتاجات أعظم العقول من مختلف الفلسفات والديانات والثقافات، ماضيًا وحاضرًا، على سبيل التفاعل الثقافي والعلمي، ومن ثم لقطف ثماره. والحق، فلولا معربو “بيت الحكمة” هذا، لكان العالم قد أضاع أعظم نتاجات الفلسفات اليونانية والعبرية والرومية، من بين سواها من كنوز الفكر من الهند والشرق الأقصى. لقد تمكن “بيت الحكمة” بواسطة حملة التعريب المذكورة التي شملت كنوز الفكر والعلوم أن يحرر العقل المعاصر من مكبلات دينية كانت قد أحيلت إلى قوى قسرية تبني الجدران بدلًا عن مد الجسور نحو الآخرين. لقد ترك بيت الحكمة، علامةً مضيئةً في تاريخ العالم الثقافي، آثارًا حضارية واضحة المعالم على الثقافة المحلية عبر ما تسبب به من تثاقف. عندما نضع “إخوان الصفا” في هذا السياق ننجح في أن نعدهم النتاج الثقافي للانفتاح العباسي المبكر السابق الذي قاده خليفة عباسي طموح هيمنت عليه رؤى المحافظة على التفوق العالمي في دولته. لذا فقد جاء “إخوان الصفا” صدى لتفاعلات ثقافية وفكرية بالغة الأثر حدثت ببغداد في مرحلة ازدهار وعولمة سابقة. وقد عكست (الرسائل) الخلاصة أعلاه بتناولها ومناقشتها أفكارًا وقضايا كانت من المحرمات التي لا يجوز حتى ذكرها، كما كانت عليه الحال في قضايا فلسفية مثل “القدرية” و”الباطنية” و”الأفلاطونية”، زيادة على مناقشتها لاستفهامات فلسفية روحية ودينية ممنوعة التداول حقبة ذاك من النوع الذي أثاره المعتزلة في خلق القرآن ودور الوحي والوجود والعدم. وقد ارتكنت المناقشات حول هذه المسائل الفلسفية التي وردت في (الرسائل)، على ما زعمه كاتبها أو جامعها المجهول من أنه إنما سعى إلى تطهير الشريعة مما علق فيها من الجهالات والضلالات بأدوات الفلسفة.
كان مجرد النطق بعناوين المسائل الفلسفية المذكورة أعلاه من الممنوعات المضادة للمؤسسات، لأنها كانت كافية لتوجيه تهم الارتداد والكفر والهرطقة التي اعتاد التقليديون، بالتعاون مع السلطة، على توجيهها لكل من يذكرها أو يناقشها، بوصفها تحديًا لسلطتهم وتجاوزًا لحدود وأطر التقليد. لا مراء من أن هذا الهاجس كمن وراء سرية “إخوان الصفا”، ففي بيئة اجتماعية وسياسية غير أمينة، يضطر مفكرون مثل “إخوان الصفا” للعمل السري، كناية عن التمرد الصامت الذي يرنو إلى تهشيم الغلاف المتحجر الذي أحاط بالثقافة وضغط بقوة على أذهان أفراد النخبة الفكرية بعد إحالة التقليد الروحي إلى قوة قسر وقهر شبه وثنية حقبة ذاك، للأسف. أما بالنسبة للصفة الإسماعيلية، فربما اكتسبها “إخوان الصفا” من المذهب الذي ولد عليه عدد من أعضاء الجماعة ومؤسسيها؛ بيد أن هذا التحجيم لا ينبغي أن يكون سقفًا خانقًا غير قابل للارتفاع عاليًا إلى مدارات فوق عرقية وفوق دينية أوسع. ثمة شيء غامض في سرية “إخوان الصفا” وتقاليدهم وطقوسهم وعضوية منظمتهم، والأهم في آصرة “الأخوة” التي دأبت المنظمة على تأسيسها وإدامتها بين أعضائها هو توظيف هذه الصفة المذهبية واجهة لإخفاء هوية أخرى (قد تكون الهوية التي افترضناها في أعلاه)، بوصفها تبرعمًا، في القرن العاشر، لجمعية سرية غائرة بالقدم استقرت في البصرة، مسقط رأس “السندباد البحري”، حسب زعم بعض الفرضيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق