قد لا يحتاج المرء لقياس سرعة وقوة التآكل الثقافي والتعرية الثقافية لغير مراجعة بسيطة للأسماء في قواميس أعلام العرب والمسلمين، بغض النظر عن دقة هذه القواميس وحياديتها، وكي لا يكون حالمًا بأمجاد عصر فقير ثقافيًّا، لذا فإن عليه أن يكتفي بنجوم الفكر والثقافة في بدايات القرن العشرين وأواسطه..
إن التآكل الثقافي على نحو سريع في عالمنا العربي ليلتهم البقاع الخصبة والواحات الخضراء في عالم الفكر والثقافة العربي، لذا يتطور الصراع الآن، متمثلًا في الارتطام بين هذا التآكل، وبين البقاع الخضراء التي يمثلها رجال القلم والفن وأصحاب الرأي، من بين سواهم من أصحاب العقول المستنيرة التي يشكل كل واحد منهم شجرة باسقة تحمي مجتمعاتنا من آفات الظلام والعتمة.
إن التآكل الثقافي على نحو سريع في عالمنا العربي ليلتهم البقاع الخصبة والواحات الخضراء في عالم الفكر والثقافة العربي، لذا يتطور الصراع الآن، متمثلًا في الارتطام بين هذا التآكل، وبين البقاع الخضراء التي يمثلها رجال القلم والفن وأصحاب الرأي، من بين سواهم من أصحاب العقول المستنيرة التي يشكل كل واحد منهم شجرة باسقة تحمي مجتمعاتنا من آفات الظلام والعتمة.
لا بد وأن يلاحظ المهتمون انحسار وتراجع العقول الذكية، كمًّا ونوعًا، عبر سنوات عصرنا الراهن الذي شهد تآكلًا واضح المعالم من جرف ثقافتنا القومية والروحية بسبب عولمة الثقافة واستحالتها من جهد يعتمد على التشبث الفردي، زيادة على طوفان المستقدم من الخارج، إلى جهد لا يحث الاعتماد على الذات فلا يغذيها، ولكنه يشجع على الــ»كسل» الذي يستثقل تحريك أنامل اليد، بالحد الأدنى من الطاقة أو النقر، على مجموعة من الأزرار التي تنقل الإنسان إلى كامل التراث العلمي والثقافي الإنساني عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)! وإذا كانت تقنيات الإنترنت قد فتحت الأبواب واسعة تستبق بــ»ثورة ثقافية» من منظور معين، فإنها في حقيقة الحال لم تحقق ذلك التغير، كما تمنى المتشائمون: بل إن النتيجة المفاجئة برزت أثقل وطأة: فبدلًا من صورة الشاب الذي جايلناه والذي يدخر مبلغ شراء «ساندويتش» من أجل شراء كتاب أو مجلة ثقافية كل شهر أو شهرين من أجل القراءة والاطلاع، لا نجد اليوم سوى صورة الشاب الذي لم يعد قادرًا حتى على التهجي (ناهيك عن فقرة في المهارات الأخرى، كالكتابة والتأليف)، مفضلًا تصفح صور الممثلات نصف العاريات عبر الإنترنت على قراءة نص جاد.
وهكذا «انقلب المركب على الربان»، فعلينا الاعتراف بأن «روحية» المثابرة وحب الاستزادة والاستنارة والإسهام في البناء الثقافي للمجتمع لم تزل آخذة بالتلاشي ما دام التآكل والغزو الثقافي جاريين باتجاه غابات الفكر المزروعة قبل من العقول الكبيرة، حيث يقضم هذا التآكل الرمال دوحة بعد أخرى، مزيلًا واحات الفكر والاستنارة العربية الإسلامية عن بكرة أبيها.
قد لا يحتاج المرء لقياس سرعة وقوة التآكل الثقافي والتعرية الثقافية لغير مراجعة بسيطة للأسماء في قواميس أعلام العرب والمسلمين، بغض النظر عن دقة هذه القواميس وحياديتها، وكي لا يكون حالمًا بأمجاد عصر فقير ثقافيًّا، لذا فإن عليه أن يكتفي بنجوم الفكر والثقافة في بدايات القرن العشرين وأواسطه، على سبيل المقاربة والمقارنة بما نمتلك اليوم من «نجوم» سائرة التلاشي والأفول، لبالغ الأسف. في النصف الأول من القرن العشرين قدمت بلاد الشام أسماءً مضيئة في سماء الثقافة والفنون العربية، ابتداءً بعبد الرحمن الكواكبي وإبراهيم اليازجي، وانتهاءً بنزار قباني، ومرورًا بالأخطل الصغير وإيليا أبو ماضي وبطرس البستاني وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وشكيب أرسلان، من بين سواهم من عمالقة آخرين. أما في مصر، فقد ظهرت عقول عملاقة كذلك (بتجاوز أساطين النهضة: الطهطاوي والأفغاني وعبده) عبر قائمة هي الأطول في تاريخ الفكر العربي المعاصر، فهي قائمة تضم (من بين آخرين) كلًّا من طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم، متماهية حتى آخر الأعمدة من أمثال الراحل، نجيب محفوظ. أما في العراق، فقد شهدنا رجال فكر وإصلاح كبار من نمط الرصافي والزهاوي، علي الوردي وجواد علي، الجواهري والسياب ونازك الملائكة، من بين آخرين. وإذا كانت الأسماء الواردة في أعلاه لا تمثل سوى نتاجات ثلاثة أقاليم رئيسية من العالم العربي، فإن الأقاليم والأقطار الأخرى قد شهدت من أمثال هؤلاء الأفذاذ. ولكن بكثافة أدنى بسبب القهر الأجنبي والاستقلال المحلي.وللمرء أن يتساءل الآن: هل نمتلك اليوم عقولًا منتجة وقادرة على الابتكار والتجديد من عيار الأسماء المذكورة أعلاه؟ بلى، لدينا بقايا منها لأن دوحة العبقرية، لا تموت ولكنها بقايا مفردة ومعزولة بسبب ذبذبتها التي لا تتناغم مع موجة العزوف العام عن نزعة الإبتكار والأصالة. لقد ظهرت العبقريات المذكورة في أزمنة تختلف عن أزمنتنا: في أوقات لم تكن فيها العديد من الأقطار العربية قد حققت الاستقلال السياسي والتحرر الاقتصادي من الوصايات الامبراطورية الأجنبية. ولكن، مع هذا رأت هذه الأذهان المتوقدة النور، بل ودون رعاية من دولة أو من وزارات ثقافة أو من مجالس ومنظمات عربية متخصصة. ولدت هذه الأسماء وترعرعت مزدهرة بلا سقاية كافية من حكومة أو من رعاة ثقافة. وكان سر هذا التميز والقدرة على مجابهة التخلف والنكوص إنما يكمن في الاعتماد على الذات والرغبة المخلصة من أجل التغير والتوازن الاجتماعي الذي كان يحترم رجال العلم والثقافة والفنون ويكرمهم، اعتباريًّا، بلا دولارات ولا ذهب، ثم ينهل من شذرات أفكارهم، لمناقشتها ولتطوير أنواع الجدل حولها.
وهكذا «انقلب المركب على الربان»، فعلينا الاعتراف بأن «روحية» المثابرة وحب الاستزادة والاستنارة والإسهام في البناء الثقافي للمجتمع لم تزل آخذة بالتلاشي ما دام التآكل والغزو الثقافي جاريين باتجاه غابات الفكر المزروعة قبل من العقول الكبيرة، حيث يقضم هذا التآكل الرمال دوحة بعد أخرى، مزيلًا واحات الفكر والاستنارة العربية الإسلامية عن بكرة أبيها.
قد لا يحتاج المرء لقياس سرعة وقوة التآكل الثقافي والتعرية الثقافية لغير مراجعة بسيطة للأسماء في قواميس أعلام العرب والمسلمين، بغض النظر عن دقة هذه القواميس وحياديتها، وكي لا يكون حالمًا بأمجاد عصر فقير ثقافيًّا، لذا فإن عليه أن يكتفي بنجوم الفكر والثقافة في بدايات القرن العشرين وأواسطه، على سبيل المقاربة والمقارنة بما نمتلك اليوم من «نجوم» سائرة التلاشي والأفول، لبالغ الأسف. في النصف الأول من القرن العشرين قدمت بلاد الشام أسماءً مضيئة في سماء الثقافة والفنون العربية، ابتداءً بعبد الرحمن الكواكبي وإبراهيم اليازجي، وانتهاءً بنزار قباني، ومرورًا بالأخطل الصغير وإيليا أبو ماضي وبطرس البستاني وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وشكيب أرسلان، من بين سواهم من عمالقة آخرين. أما في مصر، فقد ظهرت عقول عملاقة كذلك (بتجاوز أساطين النهضة: الطهطاوي والأفغاني وعبده) عبر قائمة هي الأطول في تاريخ الفكر العربي المعاصر، فهي قائمة تضم (من بين آخرين) كلًّا من طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم، متماهية حتى آخر الأعمدة من أمثال الراحل، نجيب محفوظ. أما في العراق، فقد شهدنا رجال فكر وإصلاح كبار من نمط الرصافي والزهاوي، علي الوردي وجواد علي، الجواهري والسياب ونازك الملائكة، من بين آخرين. وإذا كانت الأسماء الواردة في أعلاه لا تمثل سوى نتاجات ثلاثة أقاليم رئيسية من العالم العربي، فإن الأقاليم والأقطار الأخرى قد شهدت من أمثال هؤلاء الأفذاذ. ولكن بكثافة أدنى بسبب القهر الأجنبي والاستقلال المحلي.وللمرء أن يتساءل الآن: هل نمتلك اليوم عقولًا منتجة وقادرة على الابتكار والتجديد من عيار الأسماء المذكورة أعلاه؟ بلى، لدينا بقايا منها لأن دوحة العبقرية، لا تموت ولكنها بقايا مفردة ومعزولة بسبب ذبذبتها التي لا تتناغم مع موجة العزوف العام عن نزعة الإبتكار والأصالة. لقد ظهرت العبقريات المذكورة في أزمنة تختلف عن أزمنتنا: في أوقات لم تكن فيها العديد من الأقطار العربية قد حققت الاستقلال السياسي والتحرر الاقتصادي من الوصايات الامبراطورية الأجنبية. ولكن، مع هذا رأت هذه الأذهان المتوقدة النور، بل ودون رعاية من دولة أو من وزارات ثقافة أو من مجالس ومنظمات عربية متخصصة. ولدت هذه الأسماء وترعرعت مزدهرة بلا سقاية كافية من حكومة أو من رعاة ثقافة. وكان سر هذا التميز والقدرة على مجابهة التخلف والنكوص إنما يكمن في الاعتماد على الذات والرغبة المخلصة من أجل التغير والتوازن الاجتماعي الذي كان يحترم رجال العلم والثقافة والفنون ويكرمهم، اعتباريًّا، بلا دولارات ولا ذهب، ثم ينهل من شذرات أفكارهم، لمناقشتها ولتطوير أنواع الجدل حولها.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
maldaami@yahoo.com
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
maldaami@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق