لما تأملت هذا الموضوع المهم والشديد الحساسية في بيئتنا الثقافية العربية المتوثبة للتغيير، استذكرت الفرق بين بريطانيا وفرنسا خلال القرون الفائتة: بينما كانت باريس تحيا ثورة إجتماعية وإقتصادية وسياسية دموية منذ يوم 14 تموز (يوليو)، ثورة تشهد عليها المقاصل والساحات العامة التي أكلت كل شيء حرفياً، بل أنها أكلت حتى رؤوس مفكري الثورة وقادتها،”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خَبَر النوع الآدمي نمطين من التغير، هما: (1) التغير التدريجي البطيء؛ و(2) التغير الثوري السريع أو الخاطف. ولكن برغم افتتان قطاعات واسعة من مجتمعاتنا العربية بألفاظ “ثورة” و “ثوري” و”ثورية”، خاصة الفئات الشابة منها، إلا أن التاريخ يميط اللثام لبعيدي النظر من متابعيه عن حقائق قد تكون مخيبة لآمال “الثوريين”، ومن أهمها حقيقة تفيد بأن التغير التدريجي أكثر إلتصاقاً وعكساً للطبيعة الكونية وللطبيعة الإنسانية؛ في حين أن التغير المفاجيء والسريع (أي الثوري) غالباً مايكون مناقضاً للطبيعة ولمعطيات الكينونات الإجتماعية المستقرة. ومع هذا يبقى الإنسان والإعلام مسحوران بالثوريات وبألفاظها واستعاراتها، إذ يرغب الإنسان في تسمية كتاب قرأه بأنه “ثورة” في وعيه، أو إطلاق لفظ ثورة على ابسط الأحداث والقرارات. إنه عشق غريب مكنون في الطبيعة البشرية: عشق الثوريات! وهكذا غدا الثوري رديفاً للتقدمي بينما غدا التدرجي رديفاً للرجوعي، تعسفاً.
كلما تأملت هذا الموضوع المهم والشديد الحساسية في بيئتنا الثقافية العربية المتوثبة للتغيير، إستذكرت الفرق بين بريطانيا وفرنسا خلال القرون الفائتة: بينما كانت باريس تحيا ثورة إجتماعية وإقتصادية وسياسية دموية منذ يوم 14 تموز (يوليو)، ثورة تشهد عليها المقاصل والساحات العامة التي أكلت كل شيء حرفياً، بل أنها أكلت حتى رؤوس مفكري الثورة وقادتها، درجة يروز المقولة الشهيرة بأن “لثورة تأكل رجالها”؛ كانت بريطانيا منهمكة بقراءة “الروايات القوطية” المرعبة التي ولع بها ذلك الجيل ليقضي ليالي لندن ومانشستر الباردات في الفراش الدافيء متخيلاً الأشباح وممرات القلاع والمقابر التي كان يسكنها “دراكولا” وسواه من مصاصي الدماء. وهكذا مهد الإنجليز لـ”الثورة الصناعية ” وهي، بطبيعة الحال، ليست ثورة دموية كالثورة الفرنسية أو البلشفية. ثمة فرق شاسع بين الذهنيتين الفرنسية الساخنة الدماء (الثورية)، والبريطانية الباردة الدماء (التدريجية).
عندما نحاول توظيف هذه المعايير على تاريخنا المعاصر عبر العالمين العربي والإسلامي، يتأكد للقاريء البسيط وللمؤرخ الحذق بان عشق الثوريات عند العرب قادهم الى الكثير من التراجع وما لا يحصى من النكسات والنكبات، درجة أن “الثورة” راحت ترادف “الخفة” و “التسرع” وغياب “الحلم” والحكمة لدى الأكثر معرفة وخبرة وحكمة من مواطنينا هنا وهناك. وهكذا عاش العالم العربي مأساة “الثورة تأكل رجالها” بحذافيرها وبكل دقة وعلى نحو متتال لا ينطوي على دروس كان قد استنبطها أو تعلمها الموالون للتغير والتحولية. لذا بقي العالم العربي مسحوراً بفكرة الثورة نظراً لأنها من أفضل أدوات “التسويق اللاثوري” للبضائع الكاسدة. وبهذه الطريقة نفسها إمتطى الإعلام ألفاظ “الثورة” وإشتقاقاتها لتسويق وإشاعة ماهو ضار بالإنسان وبالتغير الحق. ثمة حاجة ماسة لمراجعة إندفاعيتنا ولإضفاء شيء من التهدئة عليها.
وهكذا صارت الثورات في العالم العربي دوائر جهنمية مفرغة: يظهر قائد الثورة، ثم ما يلبث أن يقضي عليه أحد رفاقه الثوريين، وبعد فترة وجيزة تظهر ثورة تصحيحية، ثم ثورات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق