لخوف من “ثورة زنج” هو خوف حقيقي يؤرق الإدارة الأميركية ويقض مضاجع حكام الولايات، بدليل تحشيد قوى الأمن الداخلي، بل وبدعمها بقوات شبه عسكرية للجم التمرد الذي يقوم به السود، بالتعاون مع مواطنين بيض ضد التمييز العنصري الذي لا يكتفي بمطالب إدانة الشرطي الأشقر القاتل، بل هو يدعي بأن السود يعاملون من قبل الشرطة وقوات حفظ النظام بطريقة أكثر عدائية وكراهية، طريقة تنم عن التمييز والعزل المجتمعي.”
ــــــــــــــــــــــــــــ
لا أحتضن الاعتقاد القائل بأن المجتمع الأميركي قد برأ من براثن التمييز العنصري بأنواعه. وإذا كانت القوانين قد سنت وطبقت بصرامة منقطعة النظير منذ اغتيال “مارتن لوثر كينج” في نهاية ستينيات القرن الفائت لمحو التمييز بين البيض والسود، بعداً أول؛ وبين البيض واللاتينو القادمين من المكسيك وسواها من دول أميركا اللاتينية، بعداً ثانيا (إلى آخر قائمة الجماعات التي تشعر بالتهميش أو التمييز على أساس اللون أو الجنس أو الدين)، فإن عواطف الغضب والامتعاض من الاختلاف لم تتلاشَ قط. وللمرء أن يمكث بضعة ايام في دواخل المجتمع الأميركي كي يتحسس التنافر الإثني والديني واضحاً كالشمس.
وإذا كانت أحداث مدينة فيرجسون Ferguson قد أماطت اللثام عما يعتمل في دواخل نفوس السود من غضب وكراهية لطرائق التعامل معهم من قبل السلطات، فإن قرارات الرئيس باراك أوباما، قبل بضعة ايام، حول مساعدة خمسة ملايين من اللاتينو المكسيكان أو سواهم ممن دخلوا الولايات المتحدة بصورة غير قانونية، تكرس الشعور ببقاء طبقات التمييز طي نفوس المواطنين في الولايات المتحدة على أنواعهم وأديانهم وأصولهم.
ويبدو أن الأخطر قد تبلور في حادثة فيرجسون نظراً لأنها امتدت على نحو متواصل منذ شهر أغسطس، متواصلة حتى اللحظة، حيث عبر السود عن نوع من التمرد المدني ينذر بالكثير ضد السلطات بسبب قتل شرطي أبيض لمراهق أسود غير مسلح اسمه “مايكل براون” بلا مسوغ. للمرء أن يفترض أن الخشية الحقيقية التي تؤرق المسؤولين الأميركان لا تنبع من فوضى هذه المدينة قط، ولكنها تنبع من احتمالات الإخفاق بتطويقها في هذه المدينة الصغيرة بولاية ميسوري، ثم امتدادها كالنار في الهشيم لتشعل صراعاً إثنياً بقي كامناً برغم التشريعات والقوانين المضادة للتمييز لعقود طوال.
الخوف من “ثورة زنج” هو خوف حقيقي يؤرق الإدارة الأميركية ويقض مضاجع حكام الولايات، بدليل تحشيد قوى الأمن الداخلي، بل وبدعمها بقوات شبه عسكرية للجم التمرد الذي يقوم به السود، بالتعاون مع مواطنين بيض ضد التمييز العنصري الذي لا يكتفي بمطالب إدانة الشرطي الأشقر القاتل، بل هو يدعي بأن السود يعاملون من قبل الشرطة وقوات حفظ النظام بطريقة أكثر عدائية وكراهية، طريقة تنم عن التمييز والعزل المجتمعي.
وإذا كانت وسائل الإعلام الأميركية تعكس وتنقل أحداث فيرجسون على نحو يومي، فإنها كذلك تخشى إمكانيات تحول الاحتجاج الاجتماعي الأسود إلى ثورة تسقط إدارات حكومات الولايات الواحدة تلو الأخرى، على منوال ما حدث فيما سمي بــ”الربيع العربي”، تعسفاً، وهو ما يلوح في الأفق كي يتواصل ويستحيل من شكل لآخر، مميطاً اللثام عن أنواع الاحتجاج الاجتماعي والتبرم الطبقي والكراهيات والضغائن الطائفية.
تدرك الإدارات المحلية والمركزية حجم الضغائن والاحتجاج الاجتماعي، وهي لذلك تفعل كل شيء من أجل تطويق “حرائق فيرجسون” بسرعة وبخفة، خاصة بعد أن فتح الرئيس أوباما بنفسه، جرحاً إثنياً غائراً يتمثل في محاولة إصلاح قوانين الهجرة إلى أميركا على النحو الذي يسمح لملايين المكسيكان بالبقاء في الولايات المتحدة، مع فتح ثغرات لتطبيعهم، أي لمساعدتهم على اكتساب ما يسمى بـ “الكارت الأخضر” أو “الإقامة”، خطوة أولى على سبيل منحهم الجنسية الأميركية فيما بعد، باعتبار أن المجتمع الأميركي هو مجتمع مهاجرين قاطبة. وإذا كان الجمهوريون مؤتلفين من أجل إفشال إجراء الرئيس التنفيذي، فإنهم، في حقيقة الحال، لا يعيرون جمهور الملونين واللاتينو ما يكفي من الاهتمام لضمان نجاحهم في إيصال رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض عام 2016. تبدو جروح التمييز، على أنواعه، مفتوحة وملتهبة الآن أكثر من أي وقت مضى عبر عقود: فحذار ثورة الزنج، ليست ثورة الزنج البصرية ضد الخلافة العباسية، وإنما ثورة الزنج الميسورية ضد إدارة واشنطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق