كما يفعل الكلب الضال. رمشت بعينيها في شمس ما بعد الظهيرة، شابة في ميعة الصبا، في طريق عودتها إلى بيت والديها في نهاية الأسبوع الدراسي. وقفت على المحطة تنتظر الباص، إذ بسيارة تندر تسير في اتجاها وفجأة يفتح بابها الخلفي على مصراعيه، دون أن يشعر سائقها بذلك، فأشارت بيدها للسائق أن يتوقف ليغلق باب تندره.
توقفت السيارة جانبا ونزل منها رجل، يبدو أنه يهودي غربي في جيل والدها، ويرتدي ملابس كحلية يبدو وكأنه يعمل في ورشة للحدادة أو لتصليح السيارات وما شابه، أشقر الشعر وعينان زرقاوان ولبشرته ذلك الصفاء المتألق الذي يبلغ حد الشفافية، ربما هو من أصل ألماني وما شابه، فسحنته أوربية آرية، بياض بشرته وزرقة عيونه كسكان دول اسكندنافية. تكلم السائق مع الشابة بالعبري وشكرها من صميم قلبه على تنبيهها له، فكان من الممكن أن تتطاير من سياراته أغراض عمله ويؤذي السائقين في الشارع وربما يؤدي إلى مقتل أحدهم أو إلى حادث طرق مروّع.
أغلق السائق الباب الخلفي واقترب منها وصافحها وشكرها مرة أخرى، فرأت به شخصا طيبا كوالدها لا يؤذي ذبابة، وفيما هم السائق بالدخول إلى سيارته، نادته بالغة عبرية طلقة: يا سيدي، هل يمكنني الركوب معك حتى المحطة القادمة فانا سأستقل بالباص من هناك؟
- نعم تفضلي يا صغيرة، بكل سرور!
صعدت الشابة التي ينم مظهرها على الكفاءة والتلمذة، إلى سيارته مكفكفة عرقها من حر الطقس الشديد وتبادلت مع الرجل حديثاً قصيرا مقتضبا أخبرته بأنها طالبة جامعية، وكان يبدو عليها ذلك دون أن تشرح له ذلك.
اقتربت السيارة من المحطة المنشودة وأبطأ السائق من سرعته ورأت أن السائق سيواصل دربه في نفس دربها مباشرة وهذا أحسن لها، فهي لم تقصد أن تنزل في المحطة القريبة وأرسلت ضحكة قصيرة تنم عن التحدي وأردفت قائلة: يا سيدي إذا كنت ستصل إلى المحطة التي تليها فهذا سيكون اقرب لي، فانا أفضل المحطة التالية إذا سمحت؟
ضحك منها الرجل وقال لها: ما يريحك يا ابنتي يريحني طلبك على عيني وراسي.
أعطى السائق إشارة إلى اليمين وانضم إلى الشارع الرئيسي ومرت لحظة صمت وجيزة سألها السائق: ماذا تدرسين في الكلية؟
- ادرس علم النفس..
- في آي سنة أنت؟
- في السنة ثانية..
- وهل تعملين وتكسبين لتمويل تعليمك؟
- نعم أحيانا اعمل في قطف الفواكه والخضراوات في الكيبوتسات المجاورة..
أبطأ السائق من سرعته وأعطى إشارة يمينا ليتوقف في المحطة وينزل الشابة ولكن لحسن حظها لم يتجه السائق لا شمالا ولا يمينا وهذا ما تنشده فقالت له ثانية قبل أن يتوقف بدلال: عمو، إذا كنت مستمرا بالطريق المباشرة فهذا أحسن لي سأنزل على مفرق المدينة القادمة ومن هناك سأستقل الباص إلى بلدتي..
نظر إليها الرجل في غموض وذهول ولم يفهم ماذا يفعل خاصة وان حالات الاعتداءات على السائقين كثيرة وهناك الكثير من النساء والفتيات يدعين أن السائق قد اعتدى عليهن جنسيا، خاصة في وضعه وفي سنه!!
بدأ الرجل يضرب أخماس بأسداس وشعر بأنه تورط مع هذه الشابة فأشعل سيجارته ورفع صوت مذياعي على أغنية انجليزية وشعر بأن الصبية أخذت تتراقص على أنغام الموسيقى وتناولت من علبة سجائرها واحدة وضعتها في جانب فمها وأشعلتها وهي ترسل سحائب الدخان من شفتيها القرمزيتين.. فأحمر وجه الرجل خوفا من غوامض هذه الحالة، وندما على ما قام به رغم براءة الشابة التي هي في جيل أبناءه وتبدو البراءة على محياها وطمأن نفسه عندما تذكر بأنها لم توقفه لتركب معه بل أوقفته ليغلق باب تندره ومنعت عنه مصيبة كبيرة، ولكن في أعماقه تأكد بأنه مندفع في طبيعته سهل الانقياد وإلا لم يكن عليه اصطحاب هذه الصغيرة.
مضت أكثر من ربع ساعة بين المفرق والمفرق واقترب السائق من مفرق المدينة المنشودة وأعطى إشارة يمينا حتى تنزل الشابة على محطتها المنشودة فقالت له بعبرية مع لكنة غربية كعبريته: آه كم أنا سعيدة الحظ يا عمو، فبما انك مواصل في طريقك مباشرة فهذا يساعدني ويريحني كثيرا، لأنني بحاجة إلى المسير معك إلى المحطة التي تليها لا أكثر!
جفل السائق في جزع، وفغر فاه وتصبب العرق على جبينه وتمتم ببعض الكلمات غير مفهومة، وتأكدت الشابة بأنه لا بد أن يكون من أصل ألماني حتى النخاع، ومن حسن حظ السائق بان المحطة القادمة قريبة وتمنى السائق أن يجد أي شخص يستوقف السيارات ويريد توصيلة حتى يأخذه ويساعده في التخلص من هذه الورطة!! فالفأر بدأ يلعب بعبه وآمن السائق بأن هذه الطالبة ليست بريئة كما اعتقد، فهي تتعمشقه لا غير، وها هي تكشف نفسها والإفصاح عن حقيقتها، ولكن الطريق إلى المحطة القادمة قريبة جداً، وسينتهي هذا الكابوس مع شابة بجيل بناته، وهذه المرة أعطى السائق إشارة يمينا ودخل إلى داخل البلدة، ولم يسير مباشرة كما فعل طوال الطريق ولن يكون عندها حجة لمواصلة دربها.
اقنع السائق نفسه بأن عليه أن يواجه مثل هذه المواقف العصيبة بثبات. أوقف السائق سيارته بعصبية حتى تنزل الشابة منها وقال لها بصوت ينم عن الألم النفسي العميق تفضلي، انزلي..
فتغنجت الشابة: هل يمكنني الاستمرار معك إلى داخل البلدة؟
عند إذ غضب الرجل واعتصر مشاعره، واختلج وجهه بالألم الممض، وأطفأ ماتور سيارته وصرخ بها ماذا ستفعلين في بلدتي وبين أهلي؟؟!!
فقالت الشابة: أنا من هذه البلدة وأهلها أهلي!
- ابنة من في هذه البلدة؟!!
- أبي اسمه آخميد..
- من هذا آخميد؟
- آخميد الايرباوي..
- أتقصدين أحمد العرباوي؟!!
- نعم عمو!!!
فأجاب الرجل بالعربية الدارجة، بعد أن ازدادت شخصيتها وضوحا: أنت ابنة احمد العرباوي، الله يلعن أبوك وأبو أبوكي.. أرعبتني طوال الطريق واعتقدت انك يهودية أو أجنبية ولم اعرف انك عربية، بنت بلدي..
- وأنا اعتقدت بأنك اشكنازي، يهودي من أصل ألماني!!
شغل السائق سيارته وأوصلها حتى باب بيتها وقال: سلمي على أبيك وقولي له، يلعن أبوك وأبو أبوك.. قال آخميد الايرباوي قال!!!!.....
وبعد أن سارت الشابة بعض خطوات نادت بأعلى صوتها للسائق قبل أن ينطلق، اقتربت من شباك سيارته وقالت: لا تذكر أمام احد بأنني أدخن!!!
ثم أخذت السباب واللعنات التي تزاحمت في فمه تنطلق كالرشاش من بين شفتيه وهو يختفي بسيارته مبتعدا.
-تمت-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق